Al Jazirah NewsPaper Monday  07/12/2009 G Issue 13584
الأثنين 20 ذو الحجة 1430   العدد  13584

السريالية تلفيق فلسفي لا غير (2-4)
أبوعبدالرحمن ابن عقيل الظاهري

 

قال أبو عبدالرحمن: هب أن ما أسلفته من عفن (فرويد) ممّا أُسلّم بصحته جدلاً - وهو لا يصح أبداً - فإنه من المحال أن أُحصل من الهذر الفرويدي نموذجاً أدبيا أو فنياً إبداعياً، أو بناء فلسفياً، وليس هو مصدراً لعلم ما كالتاريخ أو اللغة.. الخ (1).. أما النموذج الأدبي الإبداعي فإنني إذا تحدثت عن الرومانسية الأدبية وجدت عناصر رومانسية عاطفية منغلقة أقبضها بيدي، وأجدها أدوات فعالة تنتج أدباً متميزاً اسمه الرومانسية من اتحاد النفس بالطبيعة لاصطلام الأديب بليلاه، ولانسلاخه عن كل الهموم إلا من هم الغناء بليلاه، وهو همٌّ جنّد له كل مواهبه من التذكر..

... والتفكر، والخيال، والمشاعر الغامضة من أجل تشخيصها.. ثم في النهاية أجد هذا الأدب متميزاً عن كل أدب غيره بغنائيته، وتميزه عن أدب العذريين بعفة عن الغزل الحسي لا مثيل لها، ثم ألمس في تعانق مواد الطبيعة كإمالة الريح شجرةً إلى شجرة أخرى صوراً صادقة لخيالات الرومانسيين كأن يكون الحب عنصر جذب أيضاً في الطبيعة العجماء جعل الأشجار تتعانق بالقُبل.. والنموذج الأدبي يبرز لي قبل أن أفكر في البحث عنه؛ فأجد تلقائياً عند الخواجيين مثل الزنبقة السوداء (زنبقة الوادي) لبلزاك، ولامرتين عند الزيّات، وأبا عبدالرحمن الطفل الكبير المتقمص بكائية أو حبور (ورد زورث).. وأجد في الأدب العربي إبراهيم ناجي خالصاً كله لهذا الهم، ويتجسد همه في الأطلال، وأجد المهندس عليّ محمود طه يجسد العشق في الطبيعة بقصيدته القمر العاشق.. وبخلاف هذا كله السريالية، فكل العناصر العبثية التي جعلوها مقومات للإبداع نفخ في يوم عاصف؛ فهي عاجزة عجز المحال عن صنع إبداع فني أو أدبي متميز.. وليس للسريالية نموذج خاص، وإنما هي ذات بالوعة واحدة يشترك فيها جم غفير من المثالية الحسبانية، والوجودية العبثية الغثيانية العدمية، وهستيريا اللا معقول!! ثم إن هذا المغترف من بالوعة واحدة لم يصنع نموذجا إبداعياً أدبياً فنياً؛ فكيف ينتج اللا معقول جمالا يفهم بالحس الجمالي، ثم ينظم الإحساس بلغة مفهومة؟! وإنما الموجود من كل عناصر العبثية جمل تقريرية يُفسر بها ما لا سبيل إلى فهمه، وليست تلك العناصر آلات تلمس باليد آثارها في الإبداع كانحناء الرومانسي على ليلاه بالقٌبل في فضاء طيوب من جنّات الطبيعة بنسيمها وأشجارها وفغوها، فإذا هي تتجاوب مع وجدان الرومانسي بتقبيل شجرة لشجرة، وإصغاء زهرة إلى زهرة تهمس لها، ولحاظ نرجس تنظر إلى الرومانسي وليلاه بغيرة حانقة ربما كان معها دموع كما في قول من يريد أن يكون رومانسياً:

والنرجسُ النعسانُ بلّله النّدى

فأضاء مثل الدمع في عينيك

هذه العناصر الرومانسية هي كل عذاباتي في منعطفات التصابي، لهذا أقول للرومانسيين ?قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا?(89) سورة الأعراف.. وأما من جهة الفلسفة فهي عطاء فكري قائم على جهد مُضن من الخبرة العلمية والحسية، وعلى غوص عميق في مشاعر النفس (لا عدمية اللا شعور!!)، وعلى جهد أكثر إضناءً في استنطاق الذاكرة عمّا لديها من معارف العقل.. ومهما كان في المذاهب الفلسفية من ضلال فإن حوارها ابتداء يتمظهر باللغة العقلية البرهانية؛ فلا يجعل للخيال وعناد اللسان بمثل العبثية أي مجال في فهم ما يريده الفيلسوف.. هذا هو الواقع الفلسفي الذي أتحدّى به كل أحد أن يوجد لي أي فلسفة ضلالية حسبانية تبدأ بناءها بغير مفهومة، واحتاج يُحيل إلى العقل أن صدقاً وان كذباً.. وناهيك بالفلسفات السوية!!.. فإذا كان هذا هو واقع التفلسف فلنفرض أن السريالية فلسفة كما تزعم، وقد تمذهبت للا معقول والعبث والعدم والغثيان، وهي تحاورني بلغة مفهومة، وبإحالة إلى العقل والخبرة الحسية لقبول كل صور اللا معقول؛ فهب أنني قبلتُ؛ فهل يسوغ لي بالمنطق الذي يحاورني من أجل قبول اللا معقول أن أتحوّل إلى الجنون واللا معقول بحرية حيوانية بدون رقابة عقلية، وقد كانت الدعوة إلى جنون اللا معقول بلغة فكرية تحيل إلى رقابة العقل؟ أنى لملخوق أن يقدر على هذا.. إن كل حيل الفكر التي تخاطبني بها الفلسفات الضلالية مُقرة لي بأن 2+2=4 .. فكيف أستطيع بعد ذلك أن أُغير فطرة الله في الآفاق؛ فأقنع الناس بلغة اللا معقول أن 2+2=7 لا 4 ؟! .. يا شباب أمتي من حواة الحداثة: إن أُنثوي الطبع قد تجد له 1% من العذر من شهوة مريضة جعلته ينقاد بطبع أنثوي؛ فما عذركم في احتواء جنون اللا معقول وهم يدعونكم إلى الجنون بلغة المعقول؟ وبعد هذا كله أين حسكم الكياني التاريخي؟ لقد سقطت دولتكم العربية الإسلامية التي كانت خلافة، ومزقتكم التجزئة إلى واقع كنتم أذلّ فيه من العربي الجاهلي الذي لا يملك دولة ولا أمةً وهو بين فكي الكسروية والقيصرية.. إنه على الرّغم من كل هذا منيع في جزيرته.. ولقد حاول مصطفى جمال الدين - وهو سارق من ابن نحلته الجواهري - أن يهون من شأن كل هذه التجزئة بقوله:

وأنتمُ نحنُ في الجُلّى وان زعمت

حدودنا السودُ أنا بعد أغيار

قال أبو عبدالرحمن: كلا.. والله إننا أغيار الأغيار؛ فكذب التقية، واستبطانُ الكيد والحقد، واستباحة العرض والنفس، وإلغاء دلالة اللغة والعقل، والمكابرة والعناد، والإصرار على الخرافة: كل ذلك لن ينتج إلا الأغيار.. ثم هذه هي ملايين الأمة العربية والإسلامية مصداقاً لقول عبدالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم: (كغثاء السيل) لا تملك أبسط وسيلة لصنع قرارها السياسي، أو العسكري، أو الاقتصادي، أو الثقافي.. والعولمة المؤمّمة لخدمة كيد المفسدين في الأرض التي لم يعد المؤمّم لها خفياً: تخنقكم من كل جانب.. إن الحس التاريخي الكياني (إن كنتم ذوي حسّ) يشهد لكم بتأميم الضمير العالمي كله لخدمة الصهيونية العالمية؛ فهذه فلسطين يجزر أهلها يومياً، وتستباح أموالهم وأعراضهم وديارهم على مرأى من العالم كله بسبب وسائل الاتصال العياني من منجزات العلم الحديث، وهو ظلم وفساد لا نظير له في التاريخ البتة من جهة واقعه ومن جهة معاينة كل الناس له.. والعالم لا يقال عنه (إنه صامت)، بل هو مؤيد - بالسلوك الحر المضلل، وبالسلوك العاجز عن الإرادة الحرة - لكل هذه المظالم البشعة ودعك من الاستهلاك الإعلامي لمواقف رافضة؛ فأي أثر لها في تغيير الواقع؟! ألا يهديكم حسكم التاريخي أيها الأحباب إلى أن زحف العولمة الأحمر الدموي مؤمّمم لخدمة المطامع الصهيونية بكل لغات الخطاب الأدبي المشتقة من اللاهوت الطبيعي في العالم النصراني الذي تحول من الأحدية إلى السبتية؟ ألا ترون حفظكم الله أن صيحات التذمر المتسللة من عقول الأحديين حقيقة كانت شوارد مفلتة من خنق العالم بالكيد الصهيوني؟.. وهكذا من صحت ضمائرهم من اليهود المتدينين مثل (شالوك) كانت صيحاتهم مصارحة بالعمل الصهيوني الظلامي، وتبرئة للدين اليهودي من هذا الفساد، فوصفته يهود بالكاره نفسه؟.. ألستم ترون كل مقدرات العالم في يد الأخطبوط أو الأسلاك العنكبوتية المعقدة للعمل الصهيوني الظلامي؟.. أتكذّبون مشاهداتكم، وتكذبون خبر ربكم عن حصول هذا القدر الصهيوني الطاغي المهيمن؛ ليبتلي إيمانكم؟ إن ذلك الخبر هو قوله تعالى: بعد الآيات البينات عن سعيهم في الأرض بالفساد ?ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ? (112) سورة آل عمران؛ فأعظم ذلة لهم (الغيتو)، ثم كانوا شذاذ آفاق، ثم كانوا أهل القوة في الأرض إلى أجل بدليل قوله تعالى: ?إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا* عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا? (7-8) سورة الإسراء، وهذان النصان الكريمان مباشرا الدلالة لا يحتاجان منكم إلى إعمال فكر؛ فهم الآن دخلوا المسجد الحرام وعلوا، وهم قلة ولكنهم قهروا إرادة العالم؛ فهما حبلان: حبل من الله بما مكّنهم به من علم مادي استحقوا به حقّ المواطنة في كل بلد، ومن إقدار الله لهم على جمع الأموال بكل أوجه غسيل المال حتى سيطروا على اقتصاد العالم.. ومن إقدارٍ على المكر بالتضليل والعمل الظلامي الإفسادي الفعّال.. والحبل الآخر من الناس وهو نتيجة الحبل الأول هو ما ترونه من موت الضمير العالمي، وتصريح كل زعيم إنجيلي بأن قيام دولة إسرائيل ذمة ودين في رقبة كل فرد من رعيته، مع الإيمان بكل الأبجديات التي صنعها اللاهوت الطبيعي اليهودي عن (هرمجدون) آخر معركة في العالم تحقق دولة واحدة؛ فمهدوا لهذه الميتافيزيقا القبيحة بسلوك إرادي مقنن له يحتوي العالم قسراً، وهو زحف العولمة.. وقول الله تعالى {عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ} (8) سورة الإسراء، ليس خطاباً ليهود، بل هو خطاب للمظلومين من المسلمين بدليل قوله تعالى قُبيل ذلك ?إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ?(7) سورة الإسراء، فهو في سياق خطاب الله للمسلمين المنذرين بعلوّ كبير ليهود، و(عسى) في وعد الله تعطي اليقين برحمة الله وتخليصه عباده المؤمنين بالعاقبة الحسنة.. وأنتم أيها الأحباب - بما حذقتموه من لغات الخواجات - أطول مني باعاً في الفقه في متغيّرات العالم؛ فلست أبصر منكم بما أراه عياناً عن كل ما يُفتت الجسد والروح والفكر والدين ويقينيات العلم، ونور القيم الثلاث (الحق، والخير، والجمال): من فلسفات، ومدارس أدبية، ومعارف اللغة والتاريخ والنفس والاجتماع.. أراه كلّه الوليد الكسيح لتجمعات ظلامية بما فيها السريالية.. هل نسيتم مدرسة فينا الصهيونية التي أنتجت ركام البنيوية والتفكيك والانزياح والدلالات السيمائية التي يراد منها إبطال الدلالة التاريخية للنصوص.. وهذا الهراء اتخم به أخي الذكي الطلعة سعادة الدكتور محمد الغذامي جعلنا الله من الأحباء في دار النعيم.. وإنني أراهن على أن من عرف لغة العرب بممارسة فكرية في أوجه دلالاتها التاريخية، وأوجه نموها، وعمقها في الاشتقاق من المعنى للمفردة ومن معاني الجِذر الثنائي مثل جِذْر النون والفاء في مثل نفت ونفث ونفج ونفح ونفخ ونفد ونفذ ونفر ونفز ونفس ونفش.. الخ الدال على خروج شيء من شيء.. وهكذا من حذق الإحساس الجمالي من مواصفات الموضوع الخارجي (الجميل)، ومن مواصفات الإحساس الفئوي من الحس العامي البليد إلى الحس المثقف المرهف (الذات التي حصل لها إحساس جمالي).. إن كل من حذق هذا لا يمكن أن يقبل من البنوية ومشتقاتها أي تسطيح غبيّ يقتنص الأغبياء، أو أن يقبل من السيمياء إلا دلالات يأخذها بقناعة فكرية علمية يفسر بها نصوصاً حادثة.. ولكن جماعة فينا لا يريدون ذلك، بل يريدون إفساد كتب الأديان ذوات الدلالات التاريخية بدلالات سيمائية جديدة مبتدعة.. وهذا ما رأيته في ممارسات صنم التثقيف الجنوبي محمد أركون، فهو في دراساته التي سماها إسلامية يحاكم دلالات النص القرآني الكريم وفق آليات اللغة العربية بدلالات سيمائية مخترعة الآن أمدّته بها الصهيونية الفيينيَّة..

إني لا أدعو إلى مقاطعة مستجدات العصر الحديث، فإن فطرتي (طبيعة تكوين الله لي) تأبى ذلك، لأنني مفطور على حب الاستطلاع، ولهذا كان الجهل بلغة ثانية هو العصاب الذي أعانيه في حياتي، وإنما أدعو إلى استشراف رجولي في الذكاء والصدق مع النفس، والتورع من القول بلا علم إلا بعد استقراء علمي متعب.. ثم بعد ذلك المحاكمة البرهانية وفق نظرية المعرفة من قيمة الحق، ووفق متعة البهجة الحسية من قيمة الجمال، ووفق شاهد التجربة من قيمة الخير.. وبعد هذا البث الذي كان يمرضني قبل أن أكثه أنتقل بكم إلى العنصر الثاني عشر من عناصر السريالية.

12- تذرّع (بريتون) السريالي بعنصر جمالي، وهو (أن كل جميل عجيب، ولا جميل في الدنيا إلا العجيب)، وكذب مرتين: الأولى دعواه أن كل عجيب جميل، والواقع أن القبح والغثيان والأذى موضع عجب ممن اقترفه.. والثانية أن من عناصر الجمال الكمال بقيمتي الحق والخير، وإذن(2) كل جميل عجيب، وليس كل عجيب جميلاً.

13- قلت إن نشدناهم الحرية نشدان حرية سلوكية عمياء لا نشدان حرية قيمية(3) مشتبكة بحرية الفكر، فالحرية عندهم الجرأة على البرهاني والكياني بحرية الخيال واللسان وحرية الشعور، فيلزم أن تبرز في أدبك ما تشعر به وإن كان قبيحاً سافلاً.. وأضافوا إلى الحرية العمياء براءة الأطفال ونوازع الحب، كأن ذلك العبث عن براءة ساذجة، وكأن الحب حب لواقع أمثل لو كان النداء للعقل، وإنما الحب لشهوات الجسد والوساوس.. ونفخَ لهم فريود اليهودي أكثر من بوق، ولاسيما كون الغريزة الجنسية(4) في كل المشاعر، وهو يضلل بدعوى اللاشعور واللاوعي، فكانت عقدة الجنس عنده مسيطرة على كل فكر، وعلى كل سلوك.

وقرر جبرا أن الرسم السريالي محاولة لفهم الحقيقة من جديد(5)، فكيف إذن استشهد بمجانية (كولغورد).. وقد أفاض جبرا في مهمة الفن جمالاً ودلالة، وهذا خارج محل النزاع الذي هو العبث السريالي، فتأصيله للفن شاهدٌ على العبث السريالي لا شاهد له، ثم هو مناقض لاستئناسه بمجانية كولنغورد.. والأستاذ جبرا عليم بأدب الخواجات وقد قال عن السريالية الأدبية -إن وُجدتْ سريالية أدبية-: (إن كلمة السريالية (أي ما فوق الواقعية أو ما وراءها) تعبِّر في رأينا عن الرغبة في تعميق أسسِ الواقع، والرغبة في الوصول إلى وعي بالحياة أكثر وضوحاً من قبل.. إلى وعي بها أعنف عاطفة وأشد شعوراً)(6).

قال أبو عبدالرحمن: هذا تعبير عن تفلسف سريالي، ولكن لم أرَ جبراً ولا غيره من رموز الأدب الحداثي أتوا بشواهد أدبية إبداعية لهذا المضمون الفلسفي، وغاية ما أتى به الكتابة التلقائية، وقد مضى ما فيها من عبثية وإحالة.. وما تُرجم نم شعر رامبو(7) إنما هو نموذج من نماذج في المذاهب الأدبية لا تختص بها السريالية.

14- استلهام الحلم ومنطقة اللاشعور هما النبع الأصيل لما يصح أن يكون أدباً سريالياً، ولا يلزم منه بواعث العدمية والعبثية.. على أنني أسلفت بيان معنى (اللاشعور) بخلاف ما يدّعيه فرويد، وبينتُ متى تكون السريالية هلوسة من خلال (انفصام الشخصية).

15 - من نتائج العبثية الادعاء فلسفة لا بنموذج أدبي أن السريالية قمة وصول الفكر إلى تصالح الواقعي والضد والنقيض، فياله من افتراء وادعاء عارٍ من المضمون!!.

16 - الإبداع السريالي تلقائي، وهذا معنى ارتباط الإنسان بالطبيعة مصادفة، وقد مضى تفنيد ذلك في الكلام عن الكتابة التلقائية.

قال أبو عبدالرحمن: أنتم حديثو عهد بتعليقتي عن هموم الترجمة، والجهل بلغة ثانية هو مرضي العُصابي كما أسلفت لكم، والآن أفضي لكم بأنني لست راغباً أن أكون ذا تخصص في الفلسفة؛ وليس سر ذلك أنه ليس عندي سوى لغتي العربية، وليست اللغة الثانية حائلاً كما سيأتي بيانه بعد أسطر إن شاء الله؛ وإنما معاناتي للفلسفة قدر حتمي؛ لأن غايتي منذ اليفاع (وإن تأخر العمل الجاد) أن أقيم البراهين العلمية على الإيمان بالله سبحانه وشرعه ورسله من ضرورة العقل والأنفس والآفاق، وأن أحضر تجربة المؤمن التي هي برهان في ذاتها.. وحواجز الإيمان الصادق تنثال من حرية الفكر فيما أنتجه من الفلسفة، ثم من علم الكلام؛ فكان التدقيق الفكري فيما أقرؤه من معضلاتٍ مطلباً أنقذتُ إلى تحقيقه على الرغم مني، وكان الأمر عليَّ سهلاً في التراث الفلسفي والكلامي القديم، ولكن العبث بالعقل البشري، وبناء الإلحاد والإباحية على إعجاز الفكر الإنساني في أغلوطاته وتضليله: وجد في الفلسفة الخواجية الحديثة.. وفلاسفة العرب المعاصرون إنما هم حواة، وبعضهم مهرج يتظاهر بمعرفة الفلسفة الحديثة.. وما استوعبته من مسائل الفلسفة الحديثة- باستثناء ديكارت ومن قبله من مؤمني المسيحية مع هشاشة الإيمان مثل الأكويني وأنسلم الأونطولوجي- أثار عجبي بعد تصوره، ومثال العجب هو: كيف قنعت هذه العقول الجبارة بتلك الحسبانية والمغالطات: أذلك إمعان في التضليل، أو شهوة إيجاد مذهب، أو حب تلميع؟.. وأكبر معاناة لي مع ذوي الغموض مثل كانت وهيجل إلا أن الأخير أشدهم تعقيداً متعمداً وإلغازاً، وكان يضيع وقتي الطويل في قراءات كثيرة لثلاث صفحات مثلاً مع كثرة المراجع؛ فلا أظفر بتصور صحيح إلا بعد عناء شديد.. وليست اللغة الثانية شرطاً في هضم الفلسفة لثلاثة أسباب:

أولها: أن من كان مثلاً بلبلاً في اللغة الإنجليزية مع لغته العربية لن يفهم (إن كانت اللغة الثانية شرطاً) فلسفة (كانط) إلا من أصلها اليوناني؛ فإن كان بلبلاً في الألمانية فلن يفهم فلسفة (رسل) إلا من أصلها الإنجليزي، وكلاهما لن يفهم فلسفة سارتر إلا من أصلها بالفرنسية، وهكذا.. ومحال أن يحيط الفرد بلغات العالم.. ولكن الواقع خلاف ذلك، وهو أن مُجيد الإنجليزية من العرب توصَّل إلى كانط بالترجمة وإن كان لا يجيد الألمانية.

وثانيها: أن الفلسفة ذات أسلوب مباشر؛ لأنها عمل فكري، والترجمة قادرة على التوصيل بخلاف الفن الجمالي بما فيه من صور، فالترجمة غير موصلة إلا بتصرف من المترجم فيستعير ما يُقارب الصورة الخواجية من أدب قومه مثل الزيات ودريني خشبة وأحمد رامي في الشعر.. وقد تبين لي هذا من أمرين:

أولهما: أنني أغرمت بتذوق شعر مترجم جمعه وترجمه الدكتور عبدالغفار مكاوي - مع ترجمات أخرى- فوجدت نثراً عادياً خاملاً بخلاف ترجمة أحمد رامي لرباعيات الخيام مثلاً؛ فسألت بعض أهل التخصص لا أدري: أهو معالي الدكتور غازي القصيبي، أو معالي الدكتور الخويطر، أو الرائد الطلعة الطيب صالح، أو معالي الدكتور عبدالله الوهيبي رحمه الله؟!.. نسيتُ.. فأخبرني أن المترجم لا يستطيع نقل الصُّور المجازية إلا باستعارة من أدب قومه.

وثانيهما: أنني منذ ثلاثين عاماً تقريباً أصدرتُ كُتيِّباً عن (الفناء الباقي) أو (فلسفة الكوز) في رباعيات الخيام، وقارنتُ بين ست عشرة ترجمة فيما أظن، واستجد لي الآن ترجمات أخرى؛ فرأيت العجب العُجاب في تباين الترجمات وإن كان أحمد الصافي النجفي أقربهم إلى الأصل الفارسي بدليل التوارد على معاني ترجمته بأمشاج في الترجمات الأخرى متناثرة.. ورأيتُ أجملهم ترجمةً أحمد رامي الذي ترجم من الإنجليزية عن الفارسية بواسطة فتزجرالد، وما أملح مثلاُ قوله:

فامشِ الهُوّينا إن هذا الثرى

من أعينٍ ساحرة الأحورارْ

وما أجمل الستَّ إذا قالت: (هزا - بالزاي- السَّرى) بالسين المهملة أو الزاي..

ومثل:

واغنم من الحاضر لذَّاته

فليس في طبع الليالي الأمانْ

وهو خيامية أبيقورية.. والجمال من رامي نفسه بإضافة وإسقاط، وبالمقارنة بالترجمات وجدت أجمعهم للمعنى أحمد الصافي إذْ ترجم البيت الأول هكذا:

اُجْلُ عن وجهكَ الترابَ برفقٍ

فهو خدُّ لكاعب حسناءٍ

كل ذرات هذه الأرض كانت

أوجهاً كالشموس ذات بهاء

وقال عن البيت الثاني:

لا تقف في وجه لذَّاتك

(م م) مكتوفَ اليدينْ

أنتَ لا تأتي لدنياك

(م م م) هذي مرَّتينْ

فالنجفي أدلهُّم على مراد الخيام، ولكن رامي أجملهم نموذجاً بلا مراء.

وثالثها: أن الفلسفة فكر بشري مُنقاد يُسَلِّم بعضُه إلى بعض، ومصطلحاته ثابتة المعنى وإن تمزقت الفلسفة بالمصطلحات.. ولم يّدَّع قطُّ ذو علم بأكثر من لغة أن الفارابي أو ابن رشد مثلاً لم يُوصِّلا ما ترجماه عن أرسطو؛ بل الفارابي المعلم الأول، وابن رشد أنفذهم ملاحظة على مقاصد أرسطو ولا سيما في المجلد الخاص بالسوفسطائية.. وعرفت اللاتينيةُ الرشديةُ في أوربا مقاصدَ أرسطو من خلال ابن رشد أكثر مما عرفته من لغة أرسطو.. ومن السياق الفكري التاريخي، وببصيرتي (وكل ذلك بالله أولاً) أدركت أخطاء اصطلاحية في فلسفة كانط لدى مترجمه أحمد الشيباني (ذيبان الشمري!!) رحمه الله تعالى، ولم أكن ذا لغة ثانية، وكان ينظر إليَّ باستعلاء عقب محاضرة له في منزل سمو الأمير سعود بن سلمان بن محمد بن سعود بن فيصل آل سعود حفظه الله؛ فقلت له معلقاً بتواضع: أنا حفظكم الله لا أعرف إلا لغتي العربية الفصحى، وعاميتي المليحة في شقراء، ومع هذا أعلم أنك أخطأت في أكثر من موضع في ترجمتك لكتاب كانط.. فتلاعب لي بحاجبه ورفعه (والعين ما تِعلا على الحاجب)، وقال: مثل ماذا؟.

فقلتُ: سميتَ الكتاب (نقد العقل المجرد) وأنا أعلمُ منكَ بمراد كانط، وأنه يريد العقل المحض أو الخالص لا المجرد.. والتجريد له وجه، ولكن لفظ التجريد بمعانيه يشوِّش على المعنى الواحد المراد، وهو الخالص أو المحض.. نعم العقل يُجرِّد في ذاكرته الجزئي من إحساسه بالكلي، ويجرِّد في الذاكرة ما بين الهُوِيَّات من علاقات وفوارق؛ فهو تجريد بعد معرفة؛ فيعرف الصورة العامة الكليَّة لمعنى جزئي هو السقف من محسوس ذي معان جزئية كالبيت.. والبيت نفسه معنى عام مجرَّد من أشكال بيوت لا يحصيها العد.. ويجوز (العقل المجرد) بمعنى المجرد من خبرة سابقة، ولكن هذا المعنى يلتبس بما جُرِّد عن علم مأخوذ من معرفة سابقة؛ فهذا غير التجريد الذي ينفي حصول معرفة سابقة.. والخالص والمحض لا التباس فيه، وهو مراد كانط؛ فقد استعار مقولة (جون لوك) الإنجليزي: (العقل صفحة بيضاء والحس ينقش عليها معارفه).. والعقل الخالص عنده هو الأفكار الفطرية المجرَّدة من وجود خبرة حسية سابقة، وليس المراد التجريد من دلالة عن خبرة قد حصلت.. ثم أردفتُ بترجمته الحدس الكانطي بالزكانة، وقلت له: معنى الظن الأقرب إلى الرجحان موجود ترجمة للحدس عند بعض الفلاسفة، ولكن سياق كانط يعني بالحدس (رؤية القلب المباشرة)؛ فكان ذيبان الشمري ينظر إليَّ باحترام بعد اللامبالاة، ووعدني باستدراك ذلك في الترجمة الثانية، ولكن المنية اخترمته رحمه الله قبل ذلك، ثم صدرت ترجمة (العقل المحض) لمراد وهبة. والآن عودة (أي نعود عودة) إلى العنصر السابق عشر.

17- قال أبو عبدالرحمن: لا فرق بين مصطلحي (الذات) و(الأنا) وإن كان المراد المخلوقات التي تتجدَّد بإضافة مواهب أو بناء جسدي، أو تغيُّرٍ بالصيرورة والنقص؛ فالذات والأنا هما الشيء على ما هو عليه عند قولك: الأنا، أو ذاتي.. وافترض السرياليون ثنائية تفلسفاً لا أدباً؛ فالأنا عندهم ما ظهر من أحوال الذات، والذات هي الأعماق الخفية.. وتصح الدعوى لفظاً لا معنى لو قالوا: (الذات شيء ظاهر، وشيء خفي).. وأما فسادها معنى فقد أفضت عنه فيما سلف من كلامي عن (اللاشعور).

18- ظفرت بنموذج أدبي خواجي لشاعر سرياليِّ التفلسفِ، وهو (بول إيلوار) في قوله مخاطباً المرأة:

(ألا تستطيعين أن تجعلي الأمواج في قبضتك؟.

ألا تستطيعين أن تجمعي يدك على النجوم؟.

على أساس أن المرأة سر الوجود!!.) (8).

قال أبو عبدالرحمن: هذه مبالغة في دعوى أهمية الحب وحضور المرأة في كل حياة الإنسان.. وهي مبالغة يقولها أي شاعر، ولا يتميز بها السريالي، ثم هي لا تحقق المحالات في عناصر الفلسفة السريالية.. ومن النصوص المنسوبة إلى السرياليين أدبياً هذا الشعر:

(تتنبأُ بك الكواكب.. تتخيَّلكِ الغيوم.

أغنِّي الفرح.. الكبيرُ أن أغنيِّكِ.

طهارة أن أنتظركِ.. براءة أن أعرفكِ.

أنت يا من تٌبْطلِ النّسيانَ والأمل والجهل.

تُبطل الغياب وتضعني في العالم.

أغنّي لكي أغنِّي.. أحبّكِ لكي أغنّي.

السرَّ الذي يخلقني فيه الحبُّ ويتخلَّص)(9).

قال أبو عبدالرحمن: اتحاد الطبيعة بالحب كتعانق الأشجار عند النسيم بدعوى الحب، ثم تفسير هذا الاتحاد بحلول المحبوب (المرأة) في كل أنواع الطبيعة خيال رومانسي يبعثه لحيظات اللقاء كما في (لامرتين)، وأشعار (شللي)، وقد ذكرت بعض ذلك في كتابي (هكذا علَّمني ورد زورت)، وكتيِّبي (نظرات لاهية)؛ فأيُّ ميزة لأدب سريالي ههنا؟!.

19- جاء عبدالقادر المازني رحمه الله كعادته ببيت من الشعر مجهول القائل، وهو:

ثلاثة روضهم باكرُ

الصبُّ والمجنون والشاعرُ

ثم أفاض في علاقة الشاعر بالأحلام التي هي أمانيُّ وأوجال(10).. ولا علاقة لكل ما ذكره بالهم السريالي الأدبي الحقيقي، وهو أن يؤلِّف الخيال من أحلام المنام واليقظة عالماً متصوراً في الذهن وإن كان محال الوجود في الواقع كسرياليتي التي أستطيع بها تخيُّل موقفٍ لي في مشاهدَ من أمثال مشاهدِ الصحابة رضي الله عنهم.. وذلك محال بحسب الفارق الزمني البعيد، وهو يكون أدباً إذا ظهر في عمل فني شعري أو نثري، وهو تعبير خيالي وجداني عن أشياء ما مثل بلوغ غاية في الطموح؛ وذلك هو السريالية السوية.. أو غاية في الشهوات أو التمظهر أو العبث وتلك هي سريالية الغثيان.. ويدخل في السورية بهذا المعنى الاستشراف.. أي التطلُّع إلى كينونة أخرى في زمن آت.

20- أسرف الدكتور شاكر عبدالحميد في جعله الخيال والأحلام مرضاً عقلياً بإطلاق (11)، بل الخيال عن طريق الأحلام والأمانيِّ والمخاوف قادر على إبداع أدب جميل سويٍّ، وإنما تكون الأحلام مرضاً عقلياً إذا ظلَّت وساوس ملازمة؛ وذلك بداية انفصام الشخصية، ثم الهلوسة.

21- في هذر أدونيس وتمعلمه أن (اللاكلام) في تفلسف رامب هو النشوة السريالية، ولست والله أعلم كيف يوجد الأدب من حالة صمت.. ثم ادَّعى أن هذا الصمت هو معنى قول رامبو:

(ها هي حظيت بها.

ما هي؟.. الأبدية.

إنها البحر ممزوجاً بالشمس) (12).

قال أبو عبدالرحمن: هذا كلام يقوله أي شاعر غير سريالي، ورامبو لا يعني بالحصول على الأبدية اكتشافها من الصمت، وإنما يرمز بإضاءات الخيال (الشمس) في الأعماق (البحر)؛ لتكوين عدمية أدبية كما هو مذهب القوم في تفلسفهم الذي مضى يريد الوعد بالعدمية، وهو لم يستطعها ولن يستطيعها في نموذج إبداعي.

22- ختم أدونيس كتابه بمختارات سريالية(13)، ولكنك لا تجد فيها نموذجاً أدبياً إبداعياً أو فنيّاً كالرسم؛ وإنما هو تفلسف سريالي.

23- من عناصر السريالية إحلال الخيال من الحلم محل الأشياء القائمة، وهذا يصح عندما تكون الأحلام هلوسة، وإلا فالخيال الحُلُمي يرغب ويتمنى واقعاً متخيَّلاً ولا يجد مندوحة من الاعتراف بالشيء الواقعي القائم.

قال أبو عبدالرحمن: من خلال اطلاعي على ترجمة لشعر رامبو ممسوخ الدلالة المجازية؛ لقصور الترجمة الرمزية عن ذلك، ولعلمي بعناصر التفلسف السريالي ورامبو يدعي السريالية: فإنني شديد التأييد للدكتور جميل نصيف التكريتي عندما حكم بأن رامبو حاول السمو بالرمزية من محضية الفن إلى مذهب (الفن للحياة) (14).. إلا أنني أتحفظُّ بأن هذا السمو يصح ادعاؤه لو كان لخدمة الواقع البرهاني والكياني لا لخدمة الغبث الغثياني!.. ثم يحيرني قول الدكتور التكريتي عن هذه الرمزية المؤممة لخدمة غثيان اللاواقع: (وبهذه الصورة (أي صور الرمزيِّين العبثيين) اقترب الفن كثيراً من الدين) (15)، فياليته شرح كيفية هذا التقارب بنماذج شعرية، وما رأيت أحداً أكثر اجتراء على الأديان من مدارس العبث.. وحسب الدكتور التكريتي بَرَكتان من الإثم (؟؟!) في نصِّ نقله هما: محاولة التعبير عما لا تدركه الحواس، والتوسل لذلك بالمخدرات والأرق.. قال: (لقد أمَّل الرمزيون أن يتوصلوا إلى التعبير عما لا تدركه الحواس.. الخ.. وذلك بإضعاف سيطرة العقل والإرادة على عملية الإبداع واللجوء إلى المخدرات والأرق) (16).. حيال الله يا تكريتي وبَيّْا المخدرات حتى تُبدع؟!.

قال أبوعبدالرحمن: إن أريد التعبير عما لا تدركه الحواس بيان وصفٍ مقارب بدلالة من آثاره، أو دلالة لغةِ مشاهده له وصفه بخطابه.. أو التعبير عنه من خلال آثاره المعاينة: فلسنا نحتاج إلى وسائل وخوارق، بل نبرهن عليه ببراهين من آثاره، أو ببراهين من وصف من شاهده.. وإن أريد بالتعبير أن نكيِّف ونحدِّد بالمقدار أو العدد ما لم تدركه الحواس فهذا محال كالمحال في محاولة جَعْلِ 2+2=7؟!.. وأما كريم الذكر المخدِّر والأرق فهو لن يرينا ما لم تدركه الحواس، وإنما سَيُخيِّل لنا بصورة أخرى ألَّفها الخيال المخدَّر من أشياء أخرى أدركتها الحواس، والذي يريده التركيتي (التعبير عما لم تدركه الحواس)، وكفى بطيب الذكر المخدِّر هادياً ودليلاً، ولو اهتدى بباطية أبي نواس لكانت أرحم لأنها موت بطيء وجنون مؤقت، والمخدر جنون دائم وموت عاجل.

قال أبو عبدالرحمن: وسائل المعرفة وطُرق التعبير إجماع تلقائي لا يختلف إلا باختلاف لغات البشر، ولا يكون ذلك بمواضَعةٍ واتفاق من أفراد يضمُّهم تجمُّعات قَصْدِية.. والسريالية حركة تخريب تحت مِظَلَّة الإبداع، ومنطقها كما ردَّدتُ ذلك كثيراً (تحطيم البرهانِّي والكياني).. ولقد دلَّلَ السرياليون انتصارَ مبادئ هتلر وموسوليني.. ثم أُبعد منهم جماعة، وحُلَّ منهم جماعات، لأن انتصار الحلفاء في الحرب الثانية يحمل من القادة العقلاء غيرةً على المسيحية، وتصالحاً مع الأديان بإدراج حريتها في الحريات الأربع.. كما يحمل غيرةً وحمايةً لمنطق العقل والعلم.. وانقسم الحلفاء إلى مُعَسْكرين فكان السرياليون في لقاء واختلاف لا يُغَيِّر من الودِّ قضية مع المعسكر الماركسي، وهو أشدُّ جنايةً وتوليداً للعدمية من الهترلية والموسولينية.. وظهرت لهم بثور مختلفة يتعايشون بها مع المتغيِّرات العالمية، ومن ثم ابتدعوا ثنائية: (السريالية اللازمنية، والسريالية الزمنية المتغيرة بتغيَّر الأزمان)، ومن ثم تَسْتَنْطِقُ الفكر، والمأثور الفلسفي، وواقع السريالية: فلا تجد فروقاً حاسمة بين مذهبين أحدهما زمني والآخر لا زمني، وإنما تجد مضْغاً باللسان، وتلاعباً بالفكر في تأويل كل بَذْرة تكون خميرة في الجنون السريالي التخريبي من أجل كسب جماعةٍ لها السلطة، أو على الأقل من أجل التخلُّص من طائلة قانونها، وهذا التقلُّبُ عادة صهيونية عالمية معروفة.

ومن استقراء البذور التي اعتبرتها(17) خمائر في السريالية أجد بذرةً لأشدِّ الهجمات ضراوة على منطق العقل والعلم والتاريخ، وهو منطق الأديان الصحيحة.. أي البرهاني، الكياني، فحاولوا الوسوسة لقطيع من البشر تحت شعار لذة الإبداع بتسويغ الحسبانية بتفكيك نظام العقل الرياضي، وادعاءِ تحصيلِ المحال كاجتماع الأضداد والمتناقضات(18).. هذه البذرة تبدأ بافتراض وجود نقطة في الذهن يتصالح فيها مثلاً النقيضان فيجتمعان!!.. والبرهان والفطرة يتحدَّيان أيَّ مخلوق يُحضر هُوِيَّة آنيَّة لنقيضين مجتمعين، ولم يأتوا بشاهد من أدبهم.. أما إطلاق اللسان الفاصل بين النطق والفكر فيستطيع أن يُهلوس بما شاء فيقول: (رأيت محمداً هذه اللحظة ضاحكاً باكياً)؛ فلا يتصور العقل الفطري والعلمي البرهاني ذلك إلا بتعاقب زمني بين الضَّحِك والبكاءَ يرفع الآنيَّة الواحدة، ولا حجر على الهاذي بلسانه إلا أن تؤدِّبه السلطة إذا كان مُخرِّباً غير مجنون، وإنما ثوابت الفكر والبرهان هي التي تُحيل تصوراً، وتُحْضِر تصوراً في الواقع، وتصوُّراً في الذهن مُحْتَملِ الوقوع، ولهذا يُكْثِر الإمام أبو محمد ابن حزم رحمه الله تعالى من مثل: (ليس علينا قسْرُ الأنفس على الحق، وإنما نقسر النفوس على الإذعان للبرهان).. فماذا عند السرياليين عن عبثَّيةِ نقطةٍ في الذهن تتصالح مع التناقضات؟!.. لم أجد إلا حرية هذرٍ باللسان لا إحْضارَ واقعٍ و مُحْتمل.. افترضوا هذه النقطة افتراضاً، ثم جعلوها حقيقةً كما فعل غباءُ الدكتور طه حسين رحمه الله تعالى في افتراضات الشك الأوَّليِّ في برهان ديكارت الأونطولوجين ولما عَدُّوا الفرْض واقعاً طرحوا الأمل على النشاط السريالي أن يُحدِّد النقطة الذهنية المزعومة، وحددوا هذا النشاط بعمل الخيال في أعماق ما يسمونه اللاوعي.

قال أبو عبدالرحمن: الخيال حرٌّ في التأليف، وهو يُوجِد عوالمَ وقع مِثْلُها وعوالم محتملة بالإمكان غير الأمكن، لتخلُّف المقتضي والمانع معاً، وعوالم متصورة في الذهن محالة في الواقع كأن تتصور لك مواقف أملاها الخيال وأنت من أبناء القرن الخامس عشر، فتتصور أنك عشتها مع أجيال القرن الأول للهجرة، فالفارق الزمني يُحيل الوقوع ولا يُحيل التصوُّر؛ لأن التشبُّه والأُمْنِيَّة رفعت التناقض الزمني.. وبعد هذا فالخيال لا يستطيع أبداً تخيُّلَ نقيضين اجتمعا، وبرهان ذلك التحديِّ المطالِب بالنموذج الذي يستطع العقل تصوُّرَه، والسر في ذلك أن الخيال موجود على فطرة الله؛ إذْ هو مَلكة عقلية، والله سبحانه فطر العقل لتطابق معرفته الشيءَ وفْق ما بدا منه، والخيال ينقل تأليفه من التصوَّر الذي أودعه العقل في ملكته الثانية (الذاكرة)؛ فيأخذ منها ما جرَّده العقل من صور الهُوِيَّات وعلاقاتها وفوارقها، ولا يستطيع الخيال في تأليفه أن يُوجِدَ عنصراً لا صورة له في الذاكرة، لأن العقل لا يتصوَّر إلا ما عَرَفَهَ وَفْق ما بدا منه، ومن ذلك المُتوهمَّات كالغول والسَّعلاة (هي الشِّيفة عند العوام)، والقطرب والغدار(19)؛ فكل هذه المتوهَّمات على صورٍ ابتدعها الخيال بالتأليف من خزينة الذاكرة التي ليس فيها إلا ما هو مُتَصَّورٌ.

قال أبو عبدالرحمن: ورأيت جمهور الباحثين عن السريالية يُوَحِّدون بين الفكر والخيال، لأن السرياليين ضلَّلوا بتردافهما حتى لا يبدو للناس أنهم متجردون من العقل وتأمُّله فهم يقولون عن السريالية: (إنها إملاء للفكرة في غياب كل رقابة يمارسها العقل)؛ فمثل هذا النصر يحتِّم أن المراد بالفكر عندهم الخيال، وقد كذبوا على الخيال أيضاً، لأنه محصور بما راقبه العقل كما أسلفتُ قريباً عن عجز الخيال عن إيجاد عنصر ليس له صورة في الذاكرة التي هي مُستَودَعُ العقل.. وقولنا: (العقل والذهن والذاكرة والخيال... الخ) ليس هو أموراً تشريحية نُشخِّصها كما نُشخِّص اليد والرجل والكَبدَ والقلب والرئة، وإنما هي أمور معروفة الآثار بتجارب التأمل، ومعروف مَقَرُّها بتلك التجارب أيضاً؛ فالإنسان يرفع رأسه ويساويه ويخفضه تفكُّراً وتخيُّلاً وتذكُّراً؛ فهو يُحيل تلقائياً إلى موقع الملكة من الرأس.

قال أبو عبدالرحمن: ولن أخوض فيما لا أعرفه، فقد وجدتُ في العلوم الإنسانية تشريحاً وتحليلاً لملايين الأعصاب - والله أعلم بصحة ما قولوا- يحدث عنها عمليات العقل كلها في الدماغ.. والعامة والفصحاء يقولون: (دماغ فارغ، ومخ عنز) إذا خلي الدماغ من علم حصَّله العقل، و(فلان ينبغي أن يُكون دماغُه) إذا أتى بأمر غير معقول.

وإنك لتعجب من اللقاء بين السريالية والماركسية - وذلك تخوُّفٌ من بطش الماركسية التي لا ترحم- فهو لقاء مُصْطنَع فوقَ تَكِيَّة (السريالي الزمني)!!.. والماركسية لا تُحْظى بجمال أدبي، لأنها واقعية خطابية مباشرة، والفكر السريالي يثير العجب والدهشة.. ولكنهما عجب ودهشة من قبحٍ وعفنٍ وتضليلٍ وهذْرٍ لساني بالمحال تحقيقه.. إن الماركسية ثورية من أجل تغيير فكرة الإنسان وجعله أداةً مجرَّدةً من رغباته الفطرية، وهذا معنى (تغيير الحياة عندهم) كإزالة الطبقية، ولن تجد لسنة الله تبديلاً، ولا علاقة للإنسان بما حوله (الطبيعة) إلا بالعمل؛ فأي عمل للإنسان في الكواكب البعيدة، وأي عمل له في اقتحام حرارة الشمس لو وصل إلى جرمها؟؟!..

إنما هناك عمل، وتفكر، وتخوُّف، وعزلة، وتوَقٍّ.. الخ.. وهذا عمل في الطبيعة ومن أجلها، وليس عملاً في الطبيعة مجرَّداً؛ فقال السريالي الزمني: (نحن معكم يا ماركسيون؛ فنحن نقول بالثورة على الكياني والبرهاني، ونسعى إلى تغيير الفطرة البشرية.. وعلاقتنا بالطبيعة عَمَلٌ يبدعه نشوة الرغبة والحب)، وهؤلاء هم السرياليون الماركسيون، وإلى لقاء.

(1) قال أبو عبدالرحمن: لأن علم النفس وعلم الاجتماع مردودان إلى المعارف الأخرى

(2) قال أبو عبدالرحمن: الصحيح ما ذهب إليه أبو العباس المبرّد رحمه الله تعالى أن (إذن) لا تُكتب (إذاً)، لأن النون أصلية مثل نون (عن) وليست تنويناً.

(3) قال أبو عبدالرحمن: من (القيمة)، ويجوز تحويلها إلى صيغة الفعل (قَيَّم) بفتح القاف وتشديد الياء المثناه التحتية، ولها خصوص معنى عن فعل (قوَّم)، لأن المراد القيمة المعيارية المعتدِّ بها، والمراد أيضاً تقدير ثمن السلعة.

(4) قال أبو عبدالرحمن: الجنس كلمة عربية ذات معانٍ عربية، ولكن ليس من معانيها العربية الجماع ومقدماته، بل هذا المعنى مستعار من لغة أجنبية، والمستعمل عند العرب الباءة والنكاح والسفاح والحب والعشق.. الخ.

(5) الحرية والطوفان ص205.

(6) الحرية والطوفان ص214.

(7) قال أبو عبدالرحمن: الترجمة العلمية المباشرة للرياضيات والأعمال الفكرية والتاريخ والفقه والقانون.. الخ.. موصلة، وأما الترجمة الإيحائية في الأدب فهي عاجزة عن التوصيل إلا أن يعوّض المترجم بصور مقاربة من لغته الأم كما فعل أحمد رامي وأحمد حسن الزيات ودريني خشبة، ولهذا عجزت ترجمة خواجية عن ترجمة المجاز في قوله تعالى {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ}(سورة البقرة 187)، فترجمتها: هن سراويل لكم وأنتم سراويل لهن!!.. كما أن الشعر الخواجي إذا لم يتدخل المترجم بصورة مقاربة من أدب لغته الأم يكون كلاماً مباشراً متقطعاً غثّاً، فقصيدة (حديث الروح) مثلاً لمحمد إقبال بترجمة الصاوي شعلان اكتسبت جمالاً من أدب المترجم بخلاف مجلدين كبيرين من الشعر الخواجي ترجمهما الدكتور مكاوي، وهو ملم بالأدب الخواجي والفلسفة الخواجية، ولكنه ضعيف الحاسة الجمالية في لغته الأم.

(8) فن الشعر للدكتور إحسان ص90-91.

(9) الصوفية والسريالية ص263-264، وانظر نصاً آخر ص262-263.

(10) انظر الشعر/ غايته ووسائطه للمازني بتحقيق الدكتور فايز تَرْحِيني/ دار الفكر اللبناني - بيروت الطبعة الثانية عام 1990م، ص33-103.

(11) انظر كتابه الأدب والجنون/ دار غريب بالقاهرة عام 1998م، ص27-42.

(12) الصوفية والسريالية ص252.

(13) الصوفية والسريالية ص257-285.

(14) المذاهب الأدبية ص308.

(15) المذاهب الأدبية ص310.

(16) المذاهب الأدبية ص313.

(17) قال أبو عبدالرحمن: الاعتبار عبور من نتائج وقعت من حدثٍ سابق إلى نتائج مرتقبة ومتوقعة مستقبلا من حدثٍ راهن إذا اتحدت الظروف أو تقاربت كوحدة البواعث والأسباب؛ وذلك هو الاتعاظ.. وإذا اعتددت بشيء في حسبانك واعتبر به بمعنى اعتدّ به غير منقولة في متون اللغة مع أنها مسموعة في كلام علماء السلف كالمسألة الحمارية، وهي عن امرأة ماتت وتركت زوجها وأمها وإخوتها لأمها، وإخوتها الأشقاء؛ فلما حرم عمر رضي الله عنه الأشقاء من الإرث قالوا: يا أمير المؤمنين: هب أن أبانا كان حماراً.. أليست أُمنا واحدة؟! ومرّ عليّ من كلام العلماء القدماء - ولا استحضر المصدر الآن - يا أمير المؤمنين اعتبر أبانا حماراً.. وبغض النظر عن استعمال العلماء الاعتبار بمعنى الاعتداد فذلك صحيح بقياس اللغة من جهة المجاز.. وقول الله سبحانه وتعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} (2) سورة الحشر، يعني الاعتداد بالعاقبة، وأخذها في الحسبان؛ بالعبور من نتائج ماضية إلى نتائج متوقعة.

(18) قال أبو عبدالرحمن يتحدُ التناقض والتضاد في الحكم بأنهما لا يجتمعان؛ لأنهما هويتان لا يجتمعان إلا بمثل اختلاف الأزمان؛ فقولك: (محمد راكع ساجد) ليس من الأضداد ما دمت تريد أن أكثر وقته ركوعا تارة وسجوداً تارة؛ وإنما يكونان ضدين ممتنعين إذا قلت: (محمد راكع ساجد الآن)؛ فهذا لا يستطيع العقل تصوره؛ لأنه لا تصور إلا للمعروف من الوجود.. ويختلفان في الحكم بأن النقيضين لا يرتفعان، والأضداد بخلاف ذلك يجوز ارتفاع الضدين منها؛ لوجود ضد ثالث أو أكثر محتمل فقولك: (محمد ليس راكعاً ولا ساجداً الآن) صحيح؛ لاحتمال أنه قائم أو نائم.

(19) انظر على سبيل المثال مروج الذهب للمسعودي 2-155 - 159 بتحقيق محمد محيي الدين عبدالمجيد رحمهما الله تعالى - المكتبة العصرية بصيدا ببيروت عام 1407هـ.

كتبه لكم:

أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري

- عفا الله عنه -


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد