يوافق يوم الجمعة القادم اليوم العالمي لحقوق الإنسان، حين أطلقت الجمعية العامة لهيئة الأمم المتحدة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في العاشر من ديسمبر 1948م والذي وقعته المملكة بعد ذلك بسنوات.. تحل هذه المناسبة ومدينة جدة لها موعد (غير) مع الحقوق..
جدة تلك المدينة المنعّمة تغرق بعد بضع ساعات من المطر! جدة المدينة المترفة تقدم النموذج الباهر للمثل الشعبي (لابس خلاخل والبلا من داخل) على حدّ تعبير الكاتب عبد العزيز السويد.. وإن كانت زاوية نظري تختلف وتقف مع الذين يشاهدون (البلا) ظاهراً يستقبلك به مطار جدة الدولي مباشرة وعلى رؤوس الأشهاد..
اليوم العالمي لحقوق الإنسان هدفه التذكير بالإنسان حين يطغى استبداد أو فساد.. وأكثر ما نذكر هنا ما جاء في المادة 25 من الإعلان العالمي: (لكل شخص الحق في مستوى من المعيشة كافٍ للمحافظة على الصحة والرفاهية له ولأسرته. ويتضمن ذلك التغذية والملبس والمسكن والعناية الطبية وكذلك الخدمات الاجتماعية اللازمة). لكن ما فائدة التذكير بتلك المادة لمدينة جدة؟ أو ماذا لدي غير ذلك وكثيرة هي الأقلام التي تطرقت للسبب المباشر لكارثة سيول جدة، وهو الفساد الإداري والمالي، بجرأة نقدية حادة ونادرة أو ما أطلق عليه الأستاذ داود الشريان (جرأة باذخة).
بل إن رائد المبادرات الملك عبدالله بن عبدالعزيز طرح بكل شفافية النقد لحدود الغاية المطلوبة وحدّد طريقة التصرف المناسبة حين أصدر أمره الملكي الكريم ذاكراً في ديباجته أن: (لدينا الشجاعة الكافية للإفصاح عن ذلك والتصدي له بكل حزم..).. (وأن هذه الفاجعة لم تأتِ تبعاً لكارثة غير معتادة.. وإن من المؤسف له أن مثل هذه الأمطار بمعدلاتها هذه تسقط بشكل شبه يومي على العديد من الدول المتقدمة وغيرها ومنها ما هو أقل من المملكة في الإمكانات والقدرات ولا ينتج عنها خسائر وأضرار مفجعة على نحو ما شهدناه في محافظة جدة وهو ما آلمنا أشد الألم). ووجه الأمر الملكي بتشكيل لجنة للتحقيق لتحديد مسؤولية كل جهة حكومية أو أي شخص ذي علاقة بها كائناً من كان.. وتعويض المتضررين وصرف مليون ريال لذوي كل شهيد غرق..
فبعد كل ذلك، ما الذي يمكن أن يضاف بشكل مباشر لموضوع كارثة سيول جدة؟ ليس لدي إلا الأسباب غير المباشرة التي عادة ما تكون هي البيئة المناسبة للأسباب المباشرة.. والأسباب غير المباشرة تحيلنا إلى ما قبل الفساد، وهي كثيرة، يأتي في مقدمتها: الكفاءة، أنظمة الرقابة والمحاسبة، درجة البيروقراطية. سأتطرق هنا لموضوع الكفاءة بما تتضمن من مهارة الموظف وقدرته الإنتاجية..
الكفاءة تحتاج لتعليم وتربية، ولكن للأسف فإن مُخرَجات التعليم لدينا بكافة مستوياته وفروعه تضخّ لسوق العمل الحكومي خريجين غالبيتهم يفتقرون للكفاءة في تخصصاتهم ويفتقدون الثقافة العامة في عمومية عملهم.. وعندما يبدأ الموظف الحكومي الجديد عمله، يتم ذلك دون أن يعرف مسؤولياته ولا المهام المنوطة به بشكل محدد عملياً أومصاغ كتابياً، بل عادة تقال له المهام شفهياً، ولا توضع له مراجع معرفية في تخصصه الوظيفي، ولا يتم تطوير قدراته لاحقاً ولا تدريبه في تخصصه العملي ولا تصقل مهاراته.. ثم بعد ذلك لا يتم تمييز الموظف المنتج الماهر من ذلك الفاشل سوى بالدفتر البيروقراطي المبجل: الحضور والانصراف.. فما النتيجة المتوقعة؟ إننا سنكون أمام موظف لا يعرف إلا أبجديات عمله فقط بطريقة (مشي حالك)...
(مشي حالك) هذه لا يمشي حالها عندما يخرج نطاق العمل عن أبجدياته وطابعه الروتيني لأي سبب من الأسباب، حيث يضيع الموظف ولا يدري ما عليه فعله.. فإذا كان موظف (مشي حالك) مسؤولاً في الأرصاد الجوية، فهو غالباً لن يعرف أن يعطيك إلا المعدل اليومي المتوقع للأجواء.. وإذا كان مراقباً هندسياً للبناء فهو يسجل بشكل روتيني ما اعتاد على تسجيله، ولن يكتشف بسهولة الأخطاء المتعمدة أو غير المتعمدة.. وإذا كان محاسباً مالياً فهو أيضا لن يكتشف بعض التلاعبات خاصة الذكي منها..
صحيح أن طريقة (مشي حالك) يمشي حالها في أغلب الأوقات العادية للأعمال البيروقراطية، لكن الإشكالية لدينا هي أنها الطابع السائد حيث يفتقر الموظف للكفاءة التخصصية، أي الاحتراف الوظيفي الجاهز لمواجهة ما يخرج عن المألوف الروتيني في الأعمال المكتبية أو الطوارئ في الأعمال الميدانية..
وكفاءة الموظف وتحديد مسؤولياته يحيلنا لموضوع الحقوق والتوعية بمفاهيمها.. فالموظف الذي لا يعرف واجباته بدقة لا يعرف حقوقه بدقة، أو بعبارة أخرى لا يستوعب حقوقه ويستشعرها، ومن ثم لا يستوعب حقوق الآخرين، ولا خطورة المسؤولية فيها، ولا يستشعر مدى الضرر الذي يمكن أن يلحقه بالآخرين إلا وقت وقوع الكارثة كما حدث لمدينة جدة.. فينام ملء جفونه قبل وقوع الكارثة..
مرة في حديث مع مسؤول السلامة والأمن في إحدى الجامعات، كان يشكو من الفراغ الهائل الذي يعانيه الموظفون لديه، فهم على حد تعبيره بين نوم وشاي وقهوة، فالمباني سليمة والتجهيزات نظيفة والحوادث لا تكاد تذكر، والعمل روتيني وقليل.. وذكر أنه يخشى لدرجة الرعب أن لا يكونون جاهزين لو أن طارئاً حدث! فليس لديه رؤية ولا برنامج عمل ولا جاهزية للطوارئ..
قلت له: لا أفهم في هذه المواضيع، ولكن عندما كنتُ طالباً في جامعة ريدنج ببريطانيا، كان مسؤولو السلامة يقومون بتدريبات يومية وبمناورات أسبوعية لحادث افتراضي كالحريق أو انقطاع الكهرباء.. وفي كل موسم يُطلب منا أن نمثل حادثاً افتراضيا، ونتصرف وفقاً للتعليمات الموجهة إلينا.. وكنا نتذمر أو نتهكّم على جديتهم الحماسية.. وفي إحدى السنوات طُلب منا إجبارياً أن نحضر محاضرات في السلامة.. وفي المحاضرة الأولى خطب مدير السلامة خطبة مجلجلة، وبّخنا على تهاوننا واستهتارنا بالحضور، قال: أنتم تزعمون أنه لا داعي للقلق، وتقولون منذ سنين لم يحصل أي حادث.. أتدرون لماذا!؟ لأننا نتابع تجهيزات السلامة والصيانة أولا بأول، وكل يوم بالنسبة لنا هو يوم طوارئ، فلا نركن للدعة بحجة أن الأيام الفائتة مضت سليمة.. نتدرب يومياً ونعمل مناورة كل أسبوع.. أتدرون لماذا!؟ لأنه -ببساطة- واجبنا الحرص على سلامتكم..
alhebib@yahoo.com