للمعرفة شروط فادحة، وقائمة متطلبات منهكة، وبوابات مخادعة كلما توغلنا بها اشتد توقنا إلى المزيد من أجوبتها الغامضة المستعصية، ولأن المعرفة هي أحد متطلبات البقاء والمرادف للقانون الوجودي للحياة، لتصبح وحدها قادرة على قيادة البشرية نحو المزيد من الارتقاء في المسيرة الإنسانية، ومن هنا تأصَّل داخل البشر ذلك التوق الأزلي الذي لا يندمل للمعرفة.
لكن ليس الجميع من يمتلك ذلك القلب الجسور القادر على التوغل في غابات السؤال، أو معابثة الأقفال المغلقة على ثبات يقينها، أو مخاتلة أجوبتها الزئبقية القابلة لجميع التشكلات، بل هناك من يكابد ما يُسمى (بقلق المعرفة) والتقاعس عن المغامرة، والاستكانة إلى ضفة المعلوم دون خوض عباب الماء المظلم وصولاً للضفة المجهولة.
ألفة المعلوم وطمأنينة الثابت هي الأرض التي تجعل البعض يتجذَّر بها وينصاع لشروطها بعيداً عن غواية المعرفة.
يُشبِّه البعض قلق المعرفة بقلق الانفصال لدى الأطفال حيث يرفض الطفل مغادرة أحضان المعلوم الأمومية والانخراط في غابة الحياة، وترافق هذه المشاعر البعض حتى مراحل متقدمة في عمره ولا سيما أولئك الذين لا يمتلكون موهبة الفضول الطبيعي لمشاغبة الأجوبة، أو التوق الفطري لاكتناه الغامض، واختراق حُجب المجهول.
ومن هنا يتخلَّق ركام التيارات المتصارعة في المجتمعات بين الذين يحتفون بالجديد البعيد، أولئك المارقون على سلطة التابو، وبين من يلوذون بخيمة الأجهزة الجاهزة التي تطمئن خوفهم الفطري من قلق انفصالهم عن الأم (المعرفية).
ولكن التاريخ يثبت لنا دوماً بأن الفوز في النهاية يكون للمغامرين الوثابين الذين يرفضون حدود الخيمة الضيقة أو الأجوبة الرثة المتداولة.
وكثيراً ما يصادفنا في التقارير المتعلقة بالتنمية البشرية مصطلح (مجتمعات المعرفة) كونها الحل الوحيد لكثير من المعوقات التنموية في المنطقة، وإن كان لا نمتلك تحديداً واضحاً لهذا المصطلح إلا أنه بالتأكيد يعكس في بعض جوانبه الثورة التي أسهمت في تغيير العلاقات في المجتمعات المتمدنة، حيث أصبحت المعلومة والمعرفة سمة ومقياساً لمعنى القوة والتفوق وتشكيل الذوق الإبداعي والقيم عموماً، كما أنها ضاعفت من سرعة الفتوحات العلمية والإبداعية والتراكم المعرفي، حيث تُبشر بعالم ما بعد الحداثة وإنتاجها وتسويقها يُعد المحرك الأول للتنمية المستدامة.
ففي مجتمع المعرفة يسعى التعليم والثقافة والاتصال واستخدام الذكاء الاصطناعي وتأهيل الإنسان لأن يغدو فعالاً ومبدعاً من خلال تفعيل آليات التفكير المبدع المتجاوز للنمطية.
ولكن مع الأسف.. الكثير من مجتمعاتنا ما زالت تعاني قلق المعرفة، وعدم النضج، والقدرة على قطع الحبل السري والانطلاق باتجاه غابة الأسئلة بقلب جسور واثق من حمولته الفكرية وقدرتها على المنازلة.
