جزى الله خطباء المسجد الحرام والمسجد النبوي خير الجزاء على جهرهم بالحق، وتبيان عظم مسؤولية من أوكلت له أمانة ولي الأمر، وخدمة المسلمين. خطب شاملة، ومعان بليغة، وتأصيل يملأ قلوب المخلصين الحافظين خوفاً ورهبة قبل المُفرطين. ما أحوجنا إلى معالجة أخطاء المجتمع من خلال منبري الحرمين الشريفين، وما أحوج المقصرين إلى سماع صوت الحق عالياً جلياً لا لبس فيه، يُرشد الباحثين عن النجاة، ويُغلظ الوعيد على المُعرضين. إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور سعود الشريم تحدث عن الأمانة وشدد على أنها الوسيلة إلى أميز طرق الفلاح وأعظمها وأوسعها نفعاً. وشدد الشيخ حسين آل الشيخ على حاجة المجتمع للمحاسبة والمراجعة حين الكوارث، وقال: «إذا وقعت بنا كارثة فلا نقول إن هذا قدر على ألا نغير من واقعنا وفي مستقبلنا شيئاً، فالواجب على من تسلم قمم المراتب وتبوأ أعالي المناصب من الوزراء والمديرين والأمناء أن يستشعروا مسؤوليتهم أمام الله جل وعلا وأن يعلموا أنهم قد تحملوا أمانة عظيمة أمام الله سبحانه ثم أمام ولي الأمر ثم أمام المجتمع».
لقد باتت كارثة جدة قضية وطن، فقد أرواح أبنائه فيها وأرواح مقيمين أبرياء؛ قضية احترام الإنسانية وحفظ الروح التي خلقها الله سبحانه وتعالى وعظم أمر إزهاقها وإن كان خطأ، قضية أسر فقدت أعز ما تملك في هذا الوجود، الأب، الأم، الأبناء، والمأوى الآمن. قضية الأمانة المُضيعة التي أثرت في تطور مجتمعنا، وبناء مكوناته، واستغلال ميزانيات الخير لخدمة الوطن والمواطنين. عندما يتحدث ولي الأمر عن «المشروعات الضائعة»، وعن التقصير ويتحمل مسؤولية الآخرين فذاك يعني الشفافية المطلقة والأمانة العظيمة التي نتمنى أن يستشعرها كل من أوكلت له أمانة مصالح المواطنين. في الوقت الذي يُشدد فيه ولي الأمر على عظم كارثة جدة، تتعالى بعض أصوات (المتهاونين) للتقليل من حجم الكارثة، ووصف ما تناولته الصحف ب «المبالغة»!.
بعض تلك الأصوات جاءت من مجلس الشورى الموقر الذي يفترض أن يكون صوت المواطن، المنافح عن حقوقه أمام المسؤولين وليس العكس.
بعض الأصوات المتهاونة بدأت مؤخراً في إعادة ترديد رسائل إعلامية تخفف من هول الكارثة، وكل ما أخشاه أن تتدخل شركات العلاقات العامة لقلب الحقائق، وتهوين الفاجعة لوأدها، لا لهدف التخفيف عن المجتمع وإبعاد التدخلات عن عمل اللجنة المُباركة التي يعقد عليها الوطن والمواطنون الأمل بعد الله في كشف المتسببين في كارثة جدة، ومتابعة المقصرين في كل مناطق المملكة، فما حدث في جدة ليس بدعاً دون باقي المناطق!.
نهاية الأسبوع الماضي، أعاد الشيخ الدكتور عبدالرحمن السديس في خطبة الجمعة، كارثة جدة إلى الواجهة التي لم تغب عنها مُذ ظهرت، وكأنما رَد على تلك الأصوات المهبطة، والمتهاونة بعظم الكارثة. أكد الشيخ السديس على ضرورة التصدي للأزمات بخطط مدروسة ومنهجية وجهود مشتركة منظمة لدراسة الواقع واستشراف المستقبل.
وأشاد بقرارات ولي الأمر في مكافحة الفساد، وحذر من استغلال المناصب «لتكون سلماً للثراء غير المشروع والوظائف للانتهاز الممنوع». الشيخ السديس وبعلمه الغزير ربط بين طمأنينة المسلمين في أنحاء المعمورة وطمأنينة بلاد الحرمين حين شدد على «فضل التفاني في خدمة الدين والوطن ودفع الفساد عنه لأن طمأنينة المسلم رهن بطمأنينة بلاد الحرمين الشريفين»، وطالب بإقامة هيئة عليا لإدارة الأزمات والكوارث وأخرى لمكافحة الفساد والخيانة ترتبط بولي الأمر مباشرة، وهو ما نتمناه جميعاً؛ وما يحتاجه الوطن في مرحلة التغيير المباركة ومحاسبة المقصرين.
القول بانتهازية الطرح الإعلامي، أو الجزم بوجود سوء النية لدى كل من يتناول قضية كارثة جدة لا يمكن القبول به، وهو أمر مستهجن، أَنَّا كان مصدره. المجتمعات المتقدمة لم تبن حضاراتها إلا من خلال الشفافية المطلقة، والرقابة والمحاسبة الشديدة، وحرية الإعلام التي ساعدت على كشف الأخطاء، وفضح القضايا المكبوتة وتحويلها إلى قضايا رأي عام بهدف حلها، والقضاء عليها، لا التشفي والتشهير. المأمول من الإعلام العمل وفق أحكام «السلطة الرابعة» السلطة التي يمكن من خلالها تحسين أداء المجتمع، وكشف أخطائه، وإيصال الصورة النقية، تحقيقاً للمصلحة الوطنية ومشاركة منه في بناء الوطن.
***
F.ALBUAINAIN@HOTMAIL.COM