ندرك أن المملكة العربية السعودية تعتمد على العمالة الوافدة لأن العمالة الوطنية من حيث الكم والنوع غير قادرة - سواء في الحاضر أو في المستقبل القريب - على النهوض وحدها بصروح الإنتاجية الوطنية من صناعية وزراعية وخدمية.
فالفئة من العمالة الوافدة مما يسمون (ذوي الياقة الزرقاء) تشيد المباني، وتشق الطرق وتسفلتها، وتعد الطعام، وتنقل الركاب، وتصلح السيارات، وتؤدي سباكة المنازل وكهربائها، وتزرع الحقول، وترعى الماشية، وتنظف شوارع المدن والقرى، وتخدم في المنازل إلخ.. فهي متغلغلة في مختلف مناحي الحياة في بلادنا، وتمتهن وظائف خدمية أكثرها لا يرغبها اليوم شباب وشابات الوطن، والفئة الاخرى ممن يسمون (ذوي الياقة البيضاء) يعملون أطباء ومهندسين ومدرسين ومديرين ومحاسبين ومستشارين الخ.. تلكم حقيقة لايمكن إنكارها، مع عدم إنكارنا لجهود الكوادر العاملة الوطنية في تسيير دفة الإنتاج الوطني أنىّ تواجدت.
لكن بالرغم من حاجتنا تلك إلا أن الوطن في ظني لم يكن دائماً في حاجة قصوى إلى هذا الكم الهائل من جحافل الوافدين التي تخطت أعدادها حاجز ال (7) ملايين عامل وافد، والأدهى والأمر أن معظم هذه الجحافل ولا سيما تلك المشتغلة في أنشطة الخدمات وإن كان أكثرها يحمل إقامات نظامية - طليقة - ربما بترتيب مع كفلائها أو هاربة منهم - حرة تعمل لحساب نفسها وتدفع الاتاوات لمن أحضرها والتزم بكفالتها، ناهيك عن أن مدننا تغص بالمتخلفين والهاربين من كفلائهم، يعملون لحساب انفسهم ينافسون بذلك أهل البلاد في مصالحهم ومكاسبهم.
هنالك آلاف الوظائف والمهن في الأنشطة الخدمية التي استقدم عليها وافدون لا أعتقد ان الحاجة ماسة إليها والتي تبدو لي أنها أنشطة (ترفية)، ناهيك عن أنها مكررة، فشوارع مدن بلادنا الكبيرة والصغيرة تكتظ بعدد زائد من محلات الحلاقة، ودكاكين البقالات، ومحلات بيع الملابس، ومطاعم الوجبات الخفيفة، ومكاتب العقار، ودكاكين بيع الجوالات، ودكاكين (الرسيفرات)، بيع ادوات السباكة والكهرباء، ومحلات بيع السراميك والبويات الخ..، وهناك مئات المحلات والدكاكين منتشرة في مدن بلادنا تعرض سلعاً هامشية أكثرها تافهة ورديئة الصنع ومقلدة لا تصل إلى مرتبة الكماليات، تنافس فيها التجار وأصحاب الدكاكين المواطنين الخ.. الخ.
هذا يجعلنا ننادي بأن نعتبر عملية (ترشيد الاستقدام) قضية وطنية يجب تفعيلها كيلا يخلق التسابق في الاستقدام كارثة اقتصادية اجتماعية لا سمح الله، مطلوب أن تتضافر في تفعيلها وتتكاتف معها مختلف المصالح الحكومية ذات العلاقة مجتمعة وليس وزارة العمل وحدها، مثلما هو مطلوب من أصحاب العمل والمواطنين التفاعل معها، ولاشك أنها تعتبر مدخلاً مهما لتفعيل توظيف المواطنين وبالتالي مكافحة البطالة.
ندرك أن مكاتب العمل، عند قرار منح التأشيرات تطلب من أصحاب طلبات الاستقدام تقديم ما يثبت حاجته لعمالته وعلى رأسها السجل التجاري إن كان صاحب مؤسسة، ورخصة المحل إن كان لمحل مهنة، ولم يعجز أصحاب الطلبات في يوم من الأيام عن تقديم كل إثبات ومبرر لمكتب العمل وعلى رأسها هذه التراخيص الحكومية، الامر الذي لا يخول مكاتب العمل رفض الطلب، فيتدفق سيل من العمال إلى البلاد، ومن لم تخوله أهلية ترخيصه الحكومي موافقة مكتب العمل له لاستقدام عمال فنيين أو سائقين يطلبهم بمسمى عمال عاديين لا يحملون من المهارات شيئاً يذكر، يمكن أن يتماشى مع مكانة البلاد ومستوى اقتصادها، فامتلأت المحلات والدكاكين بصفوف من العمال غير المهرة يعملون في مهن فنية أكثرهم لا يعرفها في بلاده.
على أنه يلحظ أن كثيراً من الوظائف والمهن في أنشطة الخدمات في القطاع الخاص بدأت أصلا بفكرة ولدت في حينها وليس لحاجة، ولم تكن مبرمجة مسبقاً في أولويات الاقتصاد، وإليك أيها القارئ العزيز مثالا من بين مئات الامثلة:
صديقان يتجولان في أحد أحياء مدينة الرياض، لمح أحدهما عمارة جديدة على شارع عرضه (30 متراً) أسفلها محلات فارغة، ملصق عليها إعلان (جاهز للتأجير)، فالتفت إلى صاحبه مخاطبا: ما رأيك في هذه المحلات الواسعة، ألا يصلح استئجار احدها لمحل حلاقة، فأجابه صاحبه: انظر أمامك على الناصية المقابلة هناك ثلاث صالونات للحلاقة لا يبعد الواحد عن الآخر سوى خمسين مترا، فرد عليه قائلا: لكن هذه الناصية من الشارع تحتاج إلى صالون حلاقة، مستطرداً.. كيف بالله عليك تريد الزبون المار من هذه الناصية أن يستمر متجها بمركبته إلى آخر الشارع فيدور ليأخذ الناصية المقابلة، واستمر في استطراده.. يا أخي الامر سهل لفتح صالون حلاقة، ليس فيه خسارة كبيرة، ساستاجره بعشرين الف وأجهزة بمثلها وتمنحني البلدية رخصة، بعدها يقرر مكتب العمل على الاقل تأشيرة أو تأشيرتين لأنها من المهن التي لا يعمل عليها سعوديون، وعند قدوم العاملين أقوم بتأجيره لهما لقاء مبلغ شهري وأنا مرتاح في منزلي.
اقول.. وهكذا دواليك بالنسبة لكثير من البقالات الصغيرة ومكاتب العقار التي تعد بالآلاف وسواها، أي أنه كلما استحدث موقع دكانا أو مخزنا في شارع ما من شوارع البلاد سارع مواطن باستئجاره وباستخراج رخصة بلدية تؤهله لأن يقدمها لمكتب العمل للحصول على تأشيرة وافدين، فكم من شوارع من هذا النوع تشق في مدن وقرى بلادنا، وكم من دكاكين تشيد عليها فتصبح جميعها مصائد لاستقدام الوافدين، إنها عشرات الآلاف من الدكاكين التي ازدحمت بها شوارع مدننا وقرانا.. وإن لم يكبح جماحها فستتضاعف أعدادها، ثم يتضاعف معها أعداد الوافدين الى مالا نهاية، وكل شارع مستحدث بعرض (30) مترا مرشح لاستقدام العشرات بسببه ونخشى حينئذ أن توصف بلادنا بأنها كمن يساهم في حل بطالة الآسيويين والأفارقة في العالم.
لقد كان يسع الحال لو اختزلت أعداد هذه الأماكن إلى النصف بدلاً من أن تتوسع، أو على الاقل حددت الشوارع المسموح لها بفتح دكاكين ومحلات، وكان يسع الحال لو أن البلديات خصصت في تخطيطها للأحياء السكنية الجديدة أن فرضت على صاحب الارض المطلوب منها تخطيطها تخصيص منطقة في وسط المخطط لمنطقة منزوعة تنظيميا تصبح ملكا للحكومة تؤجرها البلدية على المستثمرين، بحيث تضم بقالات أغذية، ومخابز، ومخازن لبيع الملابس، ولعدد محدود من صوالين الحلاقة، ولمواقع بنوك، ولمطاعم ولغير ذلك من دكاكين تكون في خدمة اهالي الحي، تلكم تجربة نجحت في تطبيقها دولة الكويت ودول أخرى فاختزلت عدد العمالة الوافدة وحصرت أماكن تواجدهم وخفضت التكاليف الاقتصادية المباشرة وغير المباشرة على الدولة ومواطنيها.
ولكي ندلل على ضخامة أعداد التصاريح والسجلات بالأرقام وليس بالكلام وحده فقد بلغ مجموع السجلات التجارية التي منحتها جميع فروع وزارة التجارة والصناعة، وكذلك رخص المهن التي أصدرتها فروع وزارة البلديات والشؤون القروية حتى عام 1430هـ حوالي (1.074.825) أي أكثر من مليون سجل وترخيص منها (255.360) رخصة مهنة أصدرتها بلديات المملكة، و(819.465)، سجلا تجاريا أصدرتها فروع وزارة التجارة والصناعة (المصدر: مواقع هاتين الوزارتين)، وهي وثائق تستند عليها مكاتب العمل في قناعتها لتحديد حاجة صاحب العمل من التأشيرات، فإذا استقدم على سبيل الافتراض بمعدل (5) لكل ترخيص وسجل فيصبح عدد العمالة الوافدة في أنشطة القطاع الخاص فقط حوالي (5.374.125) عاملا أجنبيا (افتراضنا هذا المعدل علما بأن هناك مئات الشركات والمؤسسات يتجاوز أعداد عمالها الاجانب المئات)، ناهيك عن عدم احتساب خدم المنازل والسائقين الذين تبلغ أعدادهم مئات الآلاف.
أنا لست أنكر حق المواطن في طلب سجل تجاري لمزاولة تجارة، أو ترخيص لمزاولة مهنة، ولكن في ظني أن البلاد ليست دائما في حاجة إلى هذا العدد الهائل من رخص المهن ولا من السجلات التجارية، ذلك انها أصبحت عبئا على الوطن بالاستقدام عليها من الخارج، لقد كان يمكن الترحيب بهذا العدد لو أن من سيعمل فيها مواطنون باعتبارها تولد فرصا وظيفية لهم.
هذه السجلات والمحلات والدكاكين معظم ملاكها ومديروها الفعليون اجانب تحت جناح سعوديين، بل والملاحظ أن بعض الباعة العاملين فيها متخلفون وهاربون ربما لأنهم يعتقدون أنهم آمنون من حملات التفتيش عليهم هذا العدد الزخم من التراخيص، وما يتوقع له من زيادة مستقبلية يشكل في رأيي أكبر التحديات لترشيد الاستقدام، بل هو المصدر الرئيس لتدفق العمالة الاجنبية للبلاد، لذا يحسن السعي من أجل التحكم في صنابيره عن طريق الحد من أهليته ومن ثم تقليص رخص المحلات والسجلات التجارية الا بما يستدعي الحاجة الماسة وبما لا يقود إلى الاستقدام الا في حدود ندرة المهن محليا وفي هذا السعي أقترح على وزارة البلديات والشؤون القروية تصنيف الرخص التي يسمح لها باستقدام عمالة خارجية وتلك التي لاتحتاج، كما وأقترح الحد من رخص المهن عموما عن طريق التحكم في عدد الدكاكين والمخازن ومساحاتها عند منح فسوحات البناء، واختزال أعدادها عند تخطيط الاحياء الجديدة مستقبلا، وألا تسمح البلديات ببناء دكاكين تقل مساحة الواحدة عن (50) مترا، وأن يحدد المخططون شوارع معينة بعرض معين يسمح فيها مزاولة أنشطة البيع أو الخدمة، بحيث لا تمنح البلديات رخص مهن لدكاكين على شوارع يقل عرضها عن (40) متراً في المدن وعن (30) متراً في القرى.
كما وأقترح ان تدرس وحدات التخطيط في وزارة البلديات والشؤون القروية عند رسم المخططات الجديدة تخصيص منطقة في وسط المخطط تقتطع من نسبة التنظيم بمساحة كافية تستوعب حاجات متسوقي الحي، تكون مخصصة لخدمات الساكنين مما اشرنا اليه أعلاه، وتقوم بتأجيرها على مستثمرين تصرف من ريعه على صيانة طرق وكهرباء الحي ومجاريه.
وبالمقابل الا تسمح بإقامة دكاكين ومحلات تجارية في المخططات إلا في أماكن منتخبة يوافق عليها المجلس البلدي.
كما أتمنى على بلديات المملكة اثناء مهامها التفتيشية المستمرة على دكاكين الاغذية والاطعمة والمطاعم للتأكد من سلامة الاغذية وصحة العاملين أن تجعل من ضمن ذلك التأكد من نظامية عمال الموقع، وأن تعطي الصلاحية للبلديات بقفل المحل المخالف، وأن تفتش على المحلات التي تم الترخيص لها أنها فعلا على أرض الواقع وأنها تزاول نشاطها فعلاً.
ومن جانب آخر لما أن لوزارة التجارة والصناعة مهام إصدار السجلات التجارية حيث بلغ ما أصدرته حتى عام 1430هـ (819465) سجلا كما رأينا أعلاه، شملت شركات ومؤسسات المقاولات والتعهدات وسواها، فإني أتمنى على هذه الوزارة لمؤازرة لمكاتب العمل في ترشيد الاستقدام أن تتخذ التالي:
أولا إعادة النظر في شروط تراخيص السجلات التجارية بما يحقق الهدف ولا يقود إلى الاستقدام الا في حدود ضيقة.
ثانيا التفتيش على السجلات القائمة للتأكد من وجود هذه المؤسسات على أرض الواقع وأنها تزاول نشاطها فعلا والتأكد عن نظامية عمالتها، ذلك ان اسلوب التفتيش الدوري الفجائي يدفع أصحاب المنشآت نحو الالتزام بالانظمة واحترامها.
وهكذا.. فدعوتي لترشيد الاستقدام ليست ترمي إلى تجفيف جميع منابعه واحتياجاته دفعة واحدة، فالبلاد مازالت تعيش حالة نمو متواتر تحتاج للاستقدام على الأقل لتعويض البدل إلى أن تتقوى الكوادر الوطنية وتنتشر في القطاعات، لكني أحسب أن الترشيد يأتي أيضاً عن طريق سد المنابع التي تفيض عن حاجة الوطن، فكثرة العمالة الوافدة بأكثر من الحاجة ليست عبئا على الاقتصاد الوطني وعلى المجتمع فحسب بل هي عبء على أمن الوطن وسلامة المواطنين.
وفي الختام.. أجزم أن من فضائل ترشيد الاستقدام أيضاً المساهمة في مكافحة البطالة على مستوى البلاد، أي دفع شركات ومؤسسات القطاع الخاص إلى تنشيط التوظيف من الداخل، ولاشك أن هؤلاء الداخلين إلى سوق العمل هم شباب وشابات الوطن، لذا أقترح أن تتفاهم جميع الجهات الحكومية ذات العلاقة وتتفق معا على رسم خارطة طريق ذات معالم عملية تفضي في محصلتها إلى ترشيد الاستقدام، تستأنس فيها برأي أصحاب الخبرة والفهم، ولا ضير أن يستشرف فيها رأي مجلس الشورى.
والله ولي التوفيق.
وكيل وزارة العمل سابقاً وعضو مجلس الشورى سابقاً
لإبداء الرأي يمكن المراسلة على البريد الالكتروني : www.ahnyanya@yahoo.com