لطالما ضجَّ الناس بالشكوى من جشع المستشفيات والمراكز الطبية الخاصة، ولطالما فقدوا أحباء لهم بسبب أخطاء طبية وقصور في الرعاية أو خطأ في التشخيص أو في الجراحة, أو إهمال متابعة وخلافه, ونقائص أخرى في سجل بعض المستشفيات الخاصة, تضاف إلى جشعها واطِّراحها لواجبها الإنساني والأخلاقي.
أرواحٌ أزهقت بسبب الأخطاء، وآباء وأمهات وأطفال من كل الأصناف والمستويات وبكل العاهات.
المتأمل لما لدى الهيئات المتخصصة في وزارة الصحة من قضايا تحت النظر, يفجع من كثرتها وتنوعها، دون أن تتغير النظم واللوائح المختصة بهكذا شئون، تعويض عن مقص في بطن سيدة, لا يتجاوز أربعين ألف ريال، ولو ماتت فلن يتجاوز ناتج هذا الرقم مضروباً في ثلاثة..! ولا ندري هل هذه قيمة الإنسان أم تعويض عن الضرر أم عقاب يستحقه موتى الضمير؟.
أعتقد أن تلك النظم القديمة بحاجة إلى مراجعة وتقنيين جديدين، تأخذ في الحسبان غلاء الأسعار، والتغيرات المناخية، والأزمة المالية العالمية، وتأخذ في الحسبان دراسة جدوى هذه التعويضات كعقاب أو رادع يضمن عدم تكرار الإهمال, والتفريط في أمانة الحفاظ على صحة الناس وعلاجهم، لأن ما نعيشه هو العكس، لا يكاد يمر أسبوع دون أن تسمع عن خطأ طبي، أدى إلى وفاة أو إعاقة أو تعطيل.
ونتساءل: هل ذات المعايير وأنظمة المحاسبة والعقاب ومقدار التعويضات لدينا, هي ذاتها في البلاد الأخرى غير المسلمة؟. أم أن ثمة ضمائر حية هناك, وتقدير لقيمة العمل وأخلاقيات المهنة, ودقة ونزاهة اختيار الكفاءات والكوادر الطبية..؟ هل قيمة الإنسان وحياته وصحته متساوية بيننا أم ثمة تمايزات وفروق؟.
لقد قادني الحديث عن جشع المستشفيات الخاصة.. إلى الحديث عن الأخطاء الطبية، والأمر الثاني مرتبط بالأول ارتباطاً عضوياً، لأن بنية النظام واحدة والمبدأ واحد، والقضيتان متداخلتان, وكثيراً ما كتب الكاتبون وتحدث المتحدثون عن عدم وجود نظام واضح ودقيق لأجور تقديم الخدمات في المنشآت الطبية الخاصة، دون أن يتغير شيء.
ولأن قدرات وطاقات المرافق الطبية الحكومية أقل من استيعاب عدد السكان الذي يتفاقم بشكل مذهل وخطير، فليس أمامهم إلا أبواب المستشفيات الخاصة تبيع وتشتري في أسقامهم.
ولذلك دعا سماحة المفتي إلى التنبه لذلك, وطالب وفقه الله وسدد خطاه: «بوضع نظام يحمي المرضى من جشع المستشفيات والمراكز الطبية التي تسعى إلى الربح وجني الأموال والثروات الطائلة على حساب المرضى الفقراء الذين لا يملكون أو يستطيعون دفع نفقات العلاج وتحميلهم فوق طاقتهم بلا رحمة ولا إحسان»، وقال سماحته: «لابد من نظام يحمي هؤلاء الفقراء من الجشعين والمستغلين..»، وها قد جاءت هذه الدعوة النبيلة من سماحة المفتي هذه المرة، ولم تأت من عامة الناس ودهمائهم، الذين لا يُنظر غالباً لمرارة شكواهم، ولا إلى عدالة مطالبهم، وكل ما نتمناه أن تجد أذناً صاغية، وذاتاً واعية، وضميراً يقظاً يحملها محمل الجد, والأمل بالله تعالى ثم بمعالي وزير الصحة الجديد، الذي يضع الناس على عاتقه آمالاً طوالاً عراضاً هو أهل لتحقيقها، وهو أهل لأمانة المسؤولية عن أرواح الناس وكرامتهم الإنسانية.