إن قُدر لك أن تخوض عُباب بحر البحث والتنقيب وإجراء الدراسات في بيئتنا فهيئ نفسك للتوهان في غياهب أمواجها المتلاطمة التي ستجعلك حتماً صاغراً عاجزاً تمد يديك يمنة ويسرة لعلّ قشة هنا وهناك على سطح البحر البحثي
تقودك إلى بر الأمان لتلتقط معلومة أضنتك، وأخذت منك الجهد جُلُّه كي تحصل عليها. وهذا الوصف لهذا لواقع المرّ الذي يمر به بحّاثتُنا لطيف في تصويره ويعكس ما ينبغي أن يتكبده الباحث من أجل الحصول على المعلومة، ولكنه في واقعه أقرب إلى حال من يجوب الطرقات ماداً يد العون والمساعدة وقد علت على وجهه أمارات الشقاء والتعب، وأضناه ذُلّ السؤال. هذا هو حال الباحث لدينا؛ حيث يجد نفسه طارقاً لأبواب المؤسسات العامة والخاصة راجياً أن يلقى من يمده بمعلومة ينبغي أن تكون متاحة للجميع، ولكنها في معظم الأحيان تُحاط بسرية تامة؛ ولذا يتطلب الحصول عليها لباس جلباب الشحاذة والاستجداء، بل وحب الخشم، كما نحب أن نُعبر عن ذلك لنرمز للحاجة لذل السؤال. فنجد هناك على سبيل المثال لا الحصر إحاطة الأرقام والإحصاءات الرسمية بسرية غير مبررة، ومثلها في ذلك عدم تزويد الباحث بها تحت دعاوى أنها معلومات أمنية، أو ذات بيانات سرية غير قابلة للتداول، وتعذر الوصول إلى بعض أوعية المعلومات، وبخاصة في الإدارات الحكومية التي تضع العراقيل الواحدة تلو الأخرى أمام الباحثين الذين يشدون بها توثيق رؤاهم بمعلومات ذات مصدر يعتد به ويعتمد عليه، ولا يقل عن ذلك جوراً عدم تسهيل مهمة الباحث، وكذلك الريبة في دافعه من جراء القيام بدراسته وأنه أقرب إلى العمل ضمن أجندة خفية.
والحاجة إلى التحرك بشكل يقود إلى عكس تيار هذا المنحى الذي يتصادم مع عصر الثورة المعلوماتية واقتصاد المعرفة تتجلى في أن الحصول على معلومة ذات علاقة بمشكلة، أو ظاهرة اجتماعية، أو ثقافية، أو سياسية، أو في أي مجال آخر يقود في نهاية المطاف إلى تسهيل الحصول على حلول مناسبة لها نظراً لمعرفة أبعادها، ومسبباتها، ومدى انتشارها بشكل دقيق. كما أن ذلك يجعل صاحب القرار أمام تصور كامل عن حجم التوجه، أو المشكلة مما يجعل ما ينوي الإقدام على اتخاذه من قرار أقرب لأن يكون حليفه الصواب والسداد.
وفي المقابل فإن الوقوف موقف المتفرج حيال شح المعلومة والحيلولة دون الحصول عليها بيسر وسهولة يؤدي إلى نتائج سلبية عديدة يأتي في مقدمتها ترك مشاكلنا تتراكم ومن ثم يتم وضع تحت ضغط الحاجة الآنية حلول خاطئة لها، وربما وقتية. كما أن ذلك يؤدي إلى التشويش على الرأي العام في معرفة أبعاد قضية ما وأرقامها الحقيقة. وربما يقود ذلك إلى منح ذوي الأهواء الفاسدة فرصة لرسم تصور يخالف واقع الأمر وحقيقته من خلال طرح أرقام ومعلومات غير دقيقة مبنية على الحدس والتخمين، وقبل ذلك وبعده تجعل الباحث يتردد في الإقدام على إجراء دراساته وبحوثه نظراً لمعرفته المسبقة بعدم تمكينه من الحصول على المعلومة الرسمية مما يفوّت على المجتمع الاستفادة مما يمكن أن يطرحه الباحث من رؤى وتصورات وحلول لقضايا مجتمعة بحاجة ماسة للحل. وإضافة إلى ذلك كله فإنه بلا شك يجعلنا قاصرين عن فهم كثير من القضايا التي تواجه المجتمع.
وبعد طرح جملة من النتائج السلبية المترتبة على جعل الحصول على معلومة ما تمر بعملية ولادة متعسرة، وكذلك الفوائد التي يمكن جنيها من جراء تسهيل مهمة الباحث في الحصول على المعلومة والرقم، ينبغي أن نتوقف برهة حيال ما يمكن القيام به من أجل إحداث تحول نوعي يقيّض وضع العراقيل الواحد تلو الآخر أمام الباحث الناشد للمعلومة والحقيقة ولا غير. ويأتي في مقدمة الحلول السعي لإيجاد مراكز للبحث العلمي ولاستطلاع الرأي، وبيوت الخبرة، والعمل على نشر الوعي بأهمية العمل الإحصائي والاستطلاعي، وفي الوقت نفسه أهمية الالتزام بأخلاقية استخدام المعلومات والبيانات، وكذلك الأرشفة المعلوماتية، وبخاصة في الدوائر والمؤسسات الحكومية، وإيجاد معايير واضحة لتصنيف سرية المعلومات، والأمر نفسه يسري على إيجاد تنظيم يؤطّر للكيفية التي يتم بها جمع المعلومة المطلوبة، ووضع معالم وحدود يلتزم بها الباحث في معالجته للموضوع، وتدريب الباحثين على البحث والاستقصاء المنهجي، وإيجاد قواعد بيانات للبحوث والدراسات في فروع المعرفة المختلفة، وفي مختلف القطاعات. كما أننا بحاجة ماسة إلى إرساء نظام وطني للمعلومات، ودعم البنية والتجهيزات الأساسية للمعلومات، وأدوات البحث ومستلزماته بما في ذلك أدوات استرجاع المعلومات المتمثلة في الكشافات، والفهارس، والأدلة والببليوجرافيات. وأيضاً ينبغي أن يكون هناك توجه لتسهيل الاتصال المباشر بقواعد المعلومات المحلية والخارجية. وكل ذلك يمكن أن يتم من خلال إيجاد مؤسسة أو هيئة بحثية تضطلع بمهمة التخطيط، والتقويم، ورسم السياسات العامة، ومعالجة الصعوبات إن وجدت، وإيجاد قنوات للتعاون والتنسيق مع جهات مماثلة.
لم يعد البحث العلمي وإجراء الدراسات يصب في خانة الترف الذي لا ضير من عدم القيام به، وإنما أصبح في عالم اليوم أداة ذات شأن كبير في إيجاد نقلة نوعية في حياة الأمم، وتحديداً في بعث الحراك في مشروع هذه الأمة، أو تلك التنموي، وأحد المرتكزات الأساسية للتقدم العلمي والتقني لها، وأداة لتنفيذ خطط وبرامج تنمية المجتمع. ومن هنا بات ضرورياً تسهيل مهمة من يرغب في تطبيق الأسلوب العلمي في البحث، والاستقصاء، وحل المشكلات متبعاً في ذلك المنهج العلمي مستنداً في ذلك استخدام أسس ومعايير علمية كي يقف على الحقيقة للمشكلة التي يبحثها الأمر الذي ينعكس بالإيجاب على مجالات التنمية المتنوعة، وتحقيق درجات متقدمة في الرخاء والازدهار وتحسين مستوى المعيشة التي ينشدها المواطن؛ نظراً لاستغلال وتوظيف إيجابي لمورد بشري يقوم بدراسة الوضع الراهن، واستقصائه، وتقديم الحلول الناجعة تجاه قضايا المجتمع المتعددة. وذلك لن يتم ويتحقق إلاّ في ظل تبني سياسة تسهيل مهمة الباحث، وتذليل ما قد يعترض مسيرته البحثية من عقبات، وتزويده بما يحتاجه من معلومات تكون رافداً وداعماً لما يحمل في جعبته من آراء وأفكار ذات مساس بهذه القضية، أو تلك يستوي في ذلك من يجري بحوثاً تطبيقية، أو ذات طابع أكاديمي.
alseghayer@yahoo.com