سئل أحد الحكماء عن عالم دين معروف فرد عليهم (أرجو بركته ولا أقبل شهادته) وعندما سئل عن تفسير تلك العبارة العجيبة قال إنه رجل زهد الدنيا فانقطع عنها واعتزل الناس.. ولا يقرأ إلا كتباً ورثها عن سابقيه والتي أوصاه بها معلموه.. ولا يلتقي أحداً من الناس سوى طلابه وحوارييه الذين يستمعون إليه فقط.. فلا يردون له قولاً.. ولا يذكرون له فعلاً ولا يصفون له حدثاً إلا ما يوافق أهواءهم ولا يخالف عاداتهم ولا يتعارض مع مصالحهم الدنيوية.
فأنى لهذا الشيخ بين كل هذا ومعه أن يفتي والفتوى نوع من الحكم والحكم على الشيء فرع من تصوره؟.. والشيخ كل تصوراته مستقاة من طلبة تتنازعهم أهواء البشر ورغباتهم.. وتتحكم فيهم انفعالات الشباب وعواطفهم.. وتحد من قدراتهم قصر التجربة وضيق المدارك.
إن أخطر ما هدد الفتوى عبر مراحلها الماضية هو تجاهلها للواقع.. فأعظم أبواب الفتوى وأكثرها إلحاحاً الآن هو ما يطلق عليه فقه الواقع.. الذي لو نظرنا إليه بحق سنكتشف مدى حاجتنا إلى تجديد الفقه الإسلامي.. فهو لنا مثلما كان للأوائل.. وثمة فارق لابد لنا من عرضه وهو أن الأحكام تختلف عن الفتاوى.. والفارق بينهما هو الفارق بين الثابت والمتحول.
ولخطورة الفتوى وما تعنيه من اتباع المسلمين لمحتواها بيَّن الشرع أن الإفتاء أمر يجب التعامل معه وفق معايير صارمة فيما يخص صاحب الفتوى ذاته أو صياغة الفتوى أو أسلوب نشرها وتعميمها.. فالفتوى ليست رأياً شخصياً يقال أمام مستمعين أقل من المفتي علماً أو فهماً أو مقاماً.. في مجلس أو من خلال وسائل الإعلام.. والاتفاق العام بين علماء الأمة أن المتصدي للفتوى يجب أن يجمع بين العلم بكتاب الله المسطور وهو القرآن الكريم.. وكتاب الله المنظور وهو الكون وما فيه.. أي أن يكون عالماً موسوعياً مثقفاً.. وألا يكون علمه مقتصراً على علوم الدين وحدها دون علوم الحياة.. وأن يكون ميسراً لا معسراً ومبشراً لا منفراً.. وأن يكون ملماً بآراء الأولين.. وأن يتسع عقله لرخص ابن عباس.. وعزائم ابن عمر.. وأثرية ابن حنبل.. واجتهاد أبي حنيفة.. وظاهرية ابن حزم.. ومقاصدية الشاطبي.. ومنطقية الغزالي.. وموسوعية ابن تيمية.. وأن يكون متبعاً لمنهج الأنبياء جميعاً.. وأخيراً يجب أن يكون بصيراً بزمانه خبيراً بمقتضى حال سائليه.. ومتبعاً لتوجيه الفقهاء جميعاً.. وهي أن محاربة الحرام لا تتم بحظره والتحذير من مغبته فقط.. وإنما تتم بتيسير الحلال أمام الناس.