يلعب الأستاذ الجامعي دوراً حيوياً فهو بمثابة العمود الفقري في هيكل التعليم الجامعي، وهو بلا منازع الشريان الدافق الذي يمدُ الجامعات بأسباب الحياة، أو أن يقودها إلى الذبول والموت البطيء حين يمارس أفعالاً هي خارج النسق الأكاديمي المنتظر من رائد التنوير، والتثقيف الاجتماعي.
وسأحاول من خلال هذه الإطلالة المقتضبة التوقف عند مشاهد متعددة من السلطوية والفوقية، والشدة غير المبررة الذي يتعامل من خلالها العديد من الأستاذة الجامعيين مع من يقومون على تعليمهم داخل قاعات العلم والمعرفة الجامعية.
تُعدُ الفوقية والسلطوية المشهد الأبرز في تعامل الكثير من أساتذة الجامعات لدينا مع أبنائهم الطلاب، وبناتهم الطالبات، إلى جانب قدر كبير من سوء المعاملة المغلّفة بقالب عنف يخلو من الرحمة واللين، وتشوبه الكثير من الصرامة والشدة، بل وحتى الشراسة والتعنت أحياناً.
وأمام تفشي ظاهرة طغيان الجانب التسلطي، وسمة التعالي والغطرسة لكثير من الأساتذة الجامعيين يجدُ المرء نفسه في حيرة حيال تلمس أسباب الحضور القوي لهذا السلوك المهني التربوي غير السوي داخل باحات مؤسسات التعليم العالي لدينا؛ فهل هي نتاج لحظات مزاجية تطغى على الأستاذ لتغطية ضعفه العلمي؟، أو هل مصدرها شعور الأستاذ بأن الطلبة حالة من الجهل الميؤوس منها؟، أو أنهم مجموعة من المستهترين الذين يشعر بأنه يُضيّع وقته، ويُهدر جُهده، ويُعطي من علمه لمن لا يستحق، أو أنهم حالة مستعصية من الفشل التي لا يمكن علاجها، وأنهم عديمو المسؤولية، وهم في الإجمال لا يمكن أن يقوموا بدورهم كطلبة جامعيين إلاّ في ظل استخدامه (للعين الحمراء)، كما نقول في أدبياتنا الشعبية، أو أنهم أقنعوا أنفسهم بأنه ليس هناك سلطة من دون حزم، وأن بوابة المهابة تمر عبر نافذة القسوة والتعنت.
ونجد أن هذا السلوك التربوي غير السوي يمارسه بعض الأساتذة الجامعيين بشكل آخر حين يعمدون على استغلال مواقعهم وسلطتهم الأكاديمية للإضرار بطلابهم لأسباب خارجة عن الأُطر والمعايير الأكاديمية التي تحدد العلاقة بين الأستاذ والطالب الجامعي والتي يجب أن يكون من أولوياتها العدالة، والتجرد، والإنصاف. وكأني بهذا النوع من الأساتذة يعتقدون أن التلويح بعصاً الدرجات الغليظة، والتخويف بالرسوب في موادهم هما الفيصل اللذان يمنحانهم احتراماً ومهابةً ينشدونها من طلابهم الذين لا حول لهم ولا قوة إلاّ الانصياع لمطالب من يمسك بزمام مصيرهم الأكاديمي ومستقبلهم.
ومشهد آخر من مشاهد السلطوية والفوقية التي يمارسها بعض من الأستاذة الجامعيين نجده ماثلاً في صور أخرى تتراوح بين التجريح العلني أمام الجميع، ومحاولة تعقيد مسيرة الطالب، والعمل بكل ما أوتي من قوة لتحطيمه معنوياً، وهز ثقته بنفسه، ومحاولة التقليل من مكانته أمام زملائه علانية، أو من خلال ازدراء ما يتفوه به عند محاولته الإجابة على سؤال تم طرحه، أو عندما يقوم بمساءلة أستاذه عن أمرٍ ما؛ وذلك كله على ضوء خلفية موقف شخصي كوّن من خلاله الأستاذ شعوراً وموقفاً سلبياً تجاه تلميذه. ويأتي إلى جانب ذلك التهديد والوعيد بالرسوب منذ المحاضرات الأولى من مادته، وحرمان الطالب من دخول قاعة المحاضرات بسبب التأخر دقائق معدودة عند بداية المحاضرة.
والسلطوية والفوقية التي تشكل الإطار العام الذي يرسم حدوده العديد من أساتذة جامعتنا في تعاملهم مع أبنائهم وبناتهم الطلاب والطالبات يمكن أن نلمسه أيضاً في تقديس الرأي الواحد، والحجر، أو تكبيل أفواه الآراء المخالفة التي ربما يدلي بها الطلاب. فأساتذتنا - بحكم عصمتهم التي أوجدوها لأنفسهم - يقدمون المعرفة لطلابهم في صور جاهزة قطعية غير قابلة للمناقشة والتكذيب، تلفّها هالة من التقديس والعصمة الواهية، ولا تُتيح لهم الفرصة كي يناقشوا مضامينها ومراميها، أو طرح علامات الاستفهام حول أطروحاتها، أو حتى إثارة الأسئلة حولها.
والسبب الذي أدّى إلى ممارسة هذا السلوك الأكاديمي من قبل شريحة كبيرة من أساتذة الجامعات يعود إلى أن نظامنا التعليمي، وتكويننا الأكاديمي يذكي ويُمجّدُ الامتثالية والصمت، ويفضّل تحجيم هامش الحرية الأكاديمية، والانطلاقة الفكرية، كما أنه كذلك يُمجّد الإجابة الصحيحة، ويقمع بشدة الرأي المباين. وهذا السلوك يتناقض تماماً مع العرف الأكاديمي الذي يُقدس طرح الرأي والرأي الآخر، أو على الأقل إعطاء مساحة للتعبير عن الرأي المطروح بكل تجرد وأمانة.
إن عدم احتضان الكثير من أساتذتنا لطلابهم، وعدم إعطائهم الفرصة للتعبير بحرية عن آرائهم، وأفكارهم ومشاعرهم تجاه ما يقدم لهم من علم ومعرفة يؤدي لقمع طاقة الإبداع فيهم، بل ويضطرها إلى الضمور لأنها لا تتولد حين يكون الفكر مساقاً باتجاه القبول، والتسليم بالرأي الواحد المُغلّف بهالةٍ من القداسة والتمجيد. وهذا التصرف أيضاً يقود إلى منزلق خطير آخر ينطوي على سلب وإلغاء شخصية الطالب، ويدفعه مضطراً إلى مجاراة رأي أستاذه، وإن كان على خطأ ظاهر للعيان خشية أن يُوصم بالتمرد والعصيان الفكري.
إنّ على أساتذة جامعاتنا الذين انزلقوا بممارسة مثل هذه السلوكيات أن يتذكروا أن تأشيرة الدخول إلى قبة الفلك الأكاديمي مرهونة بالرقي الأخلاقي العالي، والسمو الروحي، وتقديس القيم والأخلاقيات الأكاديمية النبيلة، وأنه لا يُخلّد محفوراً في ذاكرة الأجيال إلاّ ذلك النوع من الشخصيات الأكاديمية التي تنبض بالعلم، والخلق، والإخلاص، وفوق ذلك كله تلك التي تحترم أخلاقيات المهنة الأكاديمية بكل أطيافها ومشاربها. وعليهم أن يتذكروا أن التواضع، والكلمة الطيبة، والخلق الحسن، بوابات مشرعة على مصراعيها للحصول على التقدير، والاحترام، والمهابة من لدن الطلاب تجاه من يقوم على تعليمهم وتدريسهم، وإعدادهم ليكونوا بناة المستقبل.
ألا يدرك هؤلاء الأساتذة الأثر السلبي من جراء هذا السلوك غير الإيجابي على بناء شخصية أبنائنا الطلاب وبناتنا الطالبات حين نقدم للمجتمع شخصيات ينازعها شعورٌ طاغ بعدم الثقة في النفس، واحترام الذات، وعدم الأهمية والتي سينقلونها -لا محالة - معهم في كل موقف من مواقفهم المعيشية والعملية المستقبلية.
نحن لا نريد من الأستاذ الجامعي أن يقدم لنا خريجاً فاشلاً، مستبداً، حاملاً لرزمة من أمراض نفسية يستعصي علاجها، لا يؤمن بالرأي المخالف عاكساً بسلوكياته تلك المبادئ نفسها التي غرسها ونشأه عليها أستاذه المتسلّط والمستبد، والقاسي. ويتمنى المرء من الأساتذة الجامعيين الذين دأبوا على القيام بمثل هذه الممارسات غير المهنية أن يتذكروا أنهم بصنيعهم هذا يقدمون نموذجاً ممسوخاً لما ينبغي أن يتصرف به من أُؤتمن على ثروة وطنية غالية، وأن يتذكروا أن من يقومون على تعليمه اليوم سيتسلم راية بناء الوطن في الغد القريب، وستكون ولا شك تلك الممارسات حاضرة في أذهانهم ووجدانهم شئنا أم أبينا؛ لأن النخب والقدوة العليا في المجتمع رسّخت فيهم ذلك النوع من الممارسات المهنية الخاطئة، وخانت الأمانة العلمية التي أُنيطت بهم.
المنتظر والمرجو من الأستاذ الجامعي أن يكون حاضناً لأبنائه الطلاب يسعدُ بنجاحهم وتفوقهم، ويعفو عن زلاتهم، ويُحسن معاملتهم، وأن يكون حريصاً كل الحرص على إكسابهم قدراً وافياً من العلم، والمعرفة، والمهارات التي هم بحاجة إليها عندما يغادرون أروقة جامعاتهم التي قضوا فيها سنين ينهلون المعرفة وقبل ذلك الأدب الجم. كما أن جامعتنا بحاجة إلى أستاذ جامعي قوي الشخصية ولكن بلا تسلط، وذلك النوع من الأساتذة الواثقين من أنفسهم ومن قدراتهم من غير كبرياء، وأولئك الحنونين بلا ضعف وهوادة.
وهكذا نجد أن الأستاذ الجامعي الذي يتعامل مع طلابه من منطلق الأبوة الحانية التي تتطلب المرونة في التعامل، والسعي الدائم لتحفيزهم، ومكافأتهم أكثر من السعي لمعاقبتهم، أو تغليب فكرة الدعم والتشجيع على العقاب، والعمل دوماً على مساعدتهم، وبث الحماس فيهم، ومعاملتهم بشكل متساو وعادل، وإعطائهم هامشاً كافياً للحرية لإبداء آرائهم حيال القضايا التعليمية المرتبطة بالمادة العلمية بكل تجرد وشفافية، والسعي الحثيث لإمدادهم بزاد علمي ومعرفي يتوافق مع قدراتهم، وإكسابهم مهارات التفكير، والبحث العلمي، والتعليم الذاتي مما يجعلهم في نهاية المطاف قادرين على أداء أدوارهم المهنية والتعليمية بكل كفاءة واقتدار.
كل ذلك متى ما عمل الأستاذ الجامعي بموجبه فإنه يؤدي في نهاية المطاف إلى جعل الطالب مقبلاً محباً متفانياً راغباً في الاستزادة والمعرفة، ونجد على الطرف النقيض أن من يعاملهم بقسوة، ونظرة فوقية متعجرفة مستبدة، وعدم إنصاف يحصد نفوراً من شخصه، وكرهاً لشخصيته، وكذلك لمادته التي يقوم بتدريسها.
alseghayer@yahoo.com