قصة وصلتني وتحققت منها عبر أكثر من وسيلة.. قصة من داخل حدودنا السعودية، ولم تعبر علينا من الخارج، فوجهها سعودي مئة في المئة.. الضحية سعودي وغيره ربما كثير، والجلادون هم سعوديون يمثلون مؤسسات سعودية كبرى..
مؤسسات اقتصادية ضخمة..
وليد كان رجلاً ناجحاً في عمله في القطاع الخاص في إحدى الشركات الوطنية، لديه أسرة من خمس بنات بين الجامعة والمدرسة المتوسطة، كما يعيل جزئياً أبناء أخيه الذي وافاه الأجل بسبب مرض عضال قبل سنوات..
وفي زحمة العزاء الذي كان يقيمه لوفاة أخيه.. صدمه طبيب ممن كان شاهداً على وفاة أخيه وكان حاضراً مراسم العزاء ليقول له يجب أن تراجع المستشفى، وبعد أسابيع علم أنه مصاب بفشل كلوي، يأتي طبعاً بعد زراعة سابقة قام بها قبل عدة سنوات.. وحاول أن يقاوم هذا المرض الجديد القديم.. فقد عاصره لسنوات وعايشه لمدة طويلة.. آلام وصعوبات الفاشلين كلوياً..
عاد إلى عمله، وعاد إلى منزله، ولم يكن يعلم أن الأمور ستسوء مرة أخرى.. كابد ساعات الدوام الطويلة من الثامنة صباحاً إلى الرابعة ظهراً يعمل ستة أيام في الأسبوع عدا الخميس بنصف دوام.. وليد موظف مثالي يحب عمله، يحب أن يطور دائماً من حياته، ويريد أن تعيش أسرته في هناء وسعادة.. ولظروف مادية استعان بقرض من أحد المصارف السعودية المعروفة اقترض ثلاثمائة ألف ريال، وبدأ يسدد أقساطها من الشهر التالي.. وكان منتظماً في سداده، فهو حريص أن يكون مثالياً كما هو معهود عنه داخل أسرته وفي محيط معارفه وجيرانه.. واستطاع أن يسدد مائة وعشرين ألف ريال قبل أن يصبح طريح الفراش.. خرج من عمله الذي قدم فيه استقالته مرغماً أخاك لا بطل، فلم يعد يستطع أن يواكب الوقت، وكان يتمنى أن يشتري وقتاً يضعه في تلك الشركة علها تواصل إعطاءه راتبه الذي كان يتقاضاه، ليسدد مديونيته لهذا المصرف أولاً، ثم للقيام بمسؤولياته تجاه أسرته الكبيرة.. ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن..
سقط وليد أسيراً لأسرة المستشفيات هنا وهناك، وانتهت بقرار الغسيل الكلوي الذي يضعه ثلاثة أيام في الأسبوع ولمدة ثلاث ساعات، ومما فاقم المشكلة اكتشافه أن لديه تليفاً في الكبد مما زادت معاناته، ووضعته أمام خطر يحيق بحياته.. وفي ظل هذه الظروف والمعاناة، تتوارد عليه اتصالات مندوبي المصرف.. الأخ وليد.. لقد تأخرت عن سداد قسطك هذا الشهر والشهر السابق.. أخ وليد لقد زادت عليك الأقساط وأصبحت متراكمة عليك.. أخ وليد لقد رفعنا موضوعك إلى إدارة البنك وأصبحت في القائمة السوداء، ولن تستطيع أن تجري أي عملية بنكية.. إلا عملية السداد.. واستمر هو يشرح ظروفه وأنه قد فقد عمله، ولا تستطيع استحقاقات التأمينات إلا أن تسدد بعضاً من مسؤوليات أسرته.. ولكن لا مجيب.. كأن العيون في ذلك البنك لا تفكر إلا في العملات الورقية الزرقاء التي يجب أن يستحوذ عليها المصرف، أو إلى التحويلات الإلكترونية التي تدخل إلى حسابات السداد..
أرسل وليد إلى إدارة المصرف في الفرع والمركز الرئيس كل الوثائق المصدقة من كل الجهات المطلوبة التي تشير إلى أنه فقد عمله وأن وضعه لا يؤهله إطلاقاً إلى العمل، وهو متواجد ثلاثة أيام أسبوعياً مع الغسيل الكلوي، إضافة إلى أيام أخرى مراجعات بخصوص وضعه الصعب والخطير بخصوص تليف الكبد.. ولكن لا حياة لمن تنادي..
وفجأة كأن الفرج قد أتى.. صديق لوليد اتصل به المصرف ومن شخص أبدى تعاطفه مع حالة وليد، وقال لذلك الصديق إنني أعرف عن حالة وليد تماماً، وأنا متعاطف معه.. وبناء على هذه التقارير فقد رفعت موضوعه إلى شركة التأمين التي نتعاقد معها لتغطية القروض المتعثرة، وما عليك إلا أن تساعد وليد بدفع مبلغ (عدة آلاف ريال) وسنقفل موضوعه إلى الأبد.. حيث ستتولى شركة التأمين السداد للمصرف.. ولكن بشرط واحد أن يتم السداد قبل الثانية عشرة ظهر السبت القادم.. وسارع صديقه إلى إكمال هذا السداد في موعده المحدد.. وبقيت أوراق أرسلت إلى وليد ليوقعها وفعلاً أرسلت له في مكان إقامته.. ثم أعيدت بالبريد السريع.. وكان هذا التوجه من المصرف برداً وسلاماً على وليد وأسرته.. فأخيراً أقفل موضوع السداد نهائياً.. واستمرت معاناته مع المرض من الفشل الكلوي من ناحية وتليف الكبد من ناحية أخرى.. لكن وليد الذي يسكن في شقة بإيجار سنوي شعر بأنه على الأقل أقفل باباً من أبواب ظروفه الصعبة.. ولا يريد أن يترك أعباء مالية لزوجته وبناته..
ولم تمض إلا أشهر معدودة، وبدأ المصرف يدق الأبواب مرة أخرى.. أخ وليد لا تزال أقساطك متعثرة إلى اليوم، ولم تسدد منذ أكثر من عامين.. صعقت هذه الاتصالات وليد، وحاول أن يستجمع قواه ليقول لهم ولاتصالاتهم التي بدأت تتواصل بانتظام، إنه قد تم إنهاء هذا القرض وتم رفعه إلى شركة تأمين وسقط عنه نهائياً.. ولكن جميع من يتصل بدأ ينفي ذلك، مدعين أن ذلك لم يحدث أبداً، وأعطاهم أسماء الأشخاص الذين كانوا يتواصلون معه ومع صديقه.. وبعد البحث عادوا ليقولوا إن هذه الأسماء ليست موجودة.. وبدأ المصرف يعيد الموضوع من جديد.. وهذه المرة طلب مندوب المصرف أن يلتقي بوليد.. فجاء المندوب إلى وليد وهو جالس في غرفة الغسيل الكلوي.. وجاء معه مندوب وزارة التجارة ليحققا معه، ويهددانه بأن الموضوع سيحال إلى الأجهزة الأمنية المعنية.. وغادرا المستشفى على أن قضيته ستصله قريباً ولكن هذه المرة إما أن يسدد أو يقذف خلف جدران السجن.. وتساءل وليد في سخرية: هل سيسمح لي بأخذ أجهزة الغسيل الكلوي معي إلى السجن؟!
انتهت قصة وليد.. على هذه الحالة.. فعلى الرغم من كل التقارير الطبية التي أرسلها إلى المصرف، فلم تقدم أو تأخر.. وتساءل وليد: إذا كان هذا المصرف قد أعدم ديوناً بعشرات ومئات الملايين على رجل أعمال معروف قبل حوالي العام تقريباً واعتبرها معدومة، ولكن لم يستطع هذا المصرف أن يعدم حوالي مئة وثمانين ألف ريال عن شخص ظروفه لا تسمح إطلاقاً بسداد أي جزء من هذه المديونية.. فماذا يحدث في المجتمع المصرفي..؟ وتساءل وليد وأنا معه في هذا الشأن: هل المصرف هو السلطة النهائية التي تعبث كيفما شاءت بحياة وظروف المواطنين.. كيف لمواطن سعودي اسمه وليد يحمل أعباء هائلة من المرض والمعاناة والظروف الصعبة أن يخرج من سلطة هذا المصرف.. وكيف له أن يتجاوز مثل هذه الألاعيب والممارسات التي تتنافى مع أبسط قواعد التعامل الإنساني المفترض أن يكون مع الخارجين من وظائفهم، ومع الساقطين على أسرة المرض والموت..؟؟
المشرف على كرسي صحيفة الجزيرة للصحافة الدولية
أستاذ الإعلام بجامعة الملك سعود
alkami@ksu.edu.sa