ليس أيسر من افتراش مساحات التيه المتبرم؛ ومواصفاتُها : ادعاء بالمعرفة، وتورم في الذات، وانتقاص من الآخر، ولن تعوزنا مشاهد الساكنين فيها والمسكونين بمخططاتها؛ فهم في كل متكأٍ يقعدون فيحاكمون ويحكمون والناتج تبرير قصور الأنا وتضخيم هفوات الآخر، والمنتهى صخب يملأ فراغ الجلسات وأعمدة الصحف ومنابر المنتديات.
لا يُهم هنا إن كنتَ من ذوي البصائر؛ فالأهم أن يكون صوتك ذا طبقة تأذن برفعه حتى الزعاق، ولغتُك طيعةً للمقاطعة، وخُلقك قابلا للتعالم والتعالي، ولن يضيرك أن يبتسم شانئوك في سرهم وربما علانيتهم؛ فالوهم المكثف كفيل بحجب مدى التواضع الذي يحياه أرباب المساحات المزجاة في العبث المسمى وعيا والرفض المتزيي بالجرأة، ويكفيهم أن يحُلّوا قضايا العالم بجرة حنجرة وقرقعة طنجرة.
في الولايات المتحدة تم تقدير القيمة المكافئة لعمل المتطوعين في سنة واحدة بأكثر من ثلاث مئة بليون دولار من رقم تجاوز مئة مليون متطوع؛ عمل كل واحد منهم ما معدله أربع ساعات ونصف أسبوعيا، ووازوا - في جهودهم الاختيارية غير المدفوعة عمل تسعة ملايين موظف، وفي بريطانيا : عشرون مليون متطوع حققوا دخلا يعادل ستة وعشرين مليار جنيه أسترليني في عام واحد، وهذه أرقام مضت عليها سنوات، ومن يحدثها سيجد تصاعدا في الأداء والعطاء والنواتج.
لنعد لأصحابنا المتطوعين بكحهم وبحهم لا غير؛ فإذا سئلوا إسهاما خيريا بوقتهم وخبرتهم في مشروع مجتمعي يلتزمون فيه حضورا ومشاركة لولّوا الأدبار دون أن يدركوا أن المسؤولية الاجتماعية تفترض زكاة البدن التي تكمل زكاة المال؛ فالجوارح مسؤولة ومساءلة، وقد دخلت امرأة النار في هرة حبستها ودخل الجنة رجل بكلب سقاه، وهما رمزان على ما نضع وما ندع مما يدخل في باب العمل التطوعي المشرع أمام الجميع.
لو آمنا بمبادئ المسؤولية الاجتماعية؛ فأسهَم القادرون منا بأوقاتهم وأذهانهم، وشاركوا بفعالية في مؤسسات المجتمع المدني، وعم ذلك المدن والقرى لما كان ثم مكان للمقتاتين على الانتقاد والاعتداد؛ أكانوا في مجلس محدود أم في وسائط ممدودة .
في (حضرموت) شهدنا نماذج لإسهام أهالي بعض المدن والقرى في تنمية مناطقهم رغم ابتعادهم، بل وآبائهم وأجدادهم، سنين طويلة واكتسابهم جنسيات من خارجها، وقدرناه الوفاء والانتماء؛ فخيركم خيركم لأهله، ثم استعدنا نماذج جميلة في هذه الأرض لخيّرين يصلون مناطقهم، وتلك دائرة لو رُسمت لغدا الوطن بأكمله مسارا للتطوير والتغيير.
لدينا مشرقون يقومون بأدوارهم بكفاءة واقتدار؛ فيعطون ولا يضنون، ولدينا بكاؤون يجيدون النواح والصراخ، وفرق بين من يسهر ومن ينام، وبين من يزرع ومن يمد يده، وبين من يقول و من يفعل؛ فالتمدد والتجشؤ لا يصنعان الري والشبع، وليسا بديلين للعطاء والولاء.
روى ناشط مدني أنه لجأ لبعض ناسه كي يمدوه بالمشورة لمشروع اجتماعي يخص مدينتهم التي يتبارون في ادعاء عشقها؛ فدعا مئات حضر منهم عشرون، وحين عرفوا ألا مقابل ماديا لهم انفضوا من حوله وتركوه وحيدا، وحكايته واحدة من مئات؛ ما يعني أهمية التثقيف المبكر المنظم بالعمل التطوعي للشباب الذين يمثلون أكثر من ثلاثة أرباع مواطنينا، أما جيلنا ومن قبلنا ومن بعدنا فعلينا سلام الإغفاء اللذيذ.
الحياة حقيقة النائمين
Ibrturkia@gmail.com