قبل أن نخوض معا في هذه الجدلية دعونا نستعرض على عجالة هذا المسلسل المتشابه الحلقات إلى حدٍّ بعيد، وكأن السيناريو ذاته مكتوب لجميع حلقاته، فلا جديد يضاف من نصوصه، إلا أن يتغير أبطال المسلسل حلقة بعد حلقة، ونص الحوار هو ذاته لم يتغير، سوى الموسيقى التصويرية المصاحبة لمشاهده البليدة. بلغ عدد الاكتتابات منذ مطلع 2006م إلى اليوم في السوق السعودية نحو 67 شركة مساهمة، جمعت من المكتتبين البالغ عددهم أكثر من 137 مليون مكتتب أكثر من 70.5 مليار ريال، وصل عدد الشركات التي طرحت بعلاوة إصدار إلى 28 شركة (42 في المائة من الإجمالي)، استحوذت على أكثر من 35.4 مليار ريال (50.3 في المائة من الحصيلة المالية للاكتتابات)، دفعها نحو 69.5 مليون مكتتب (50.7 في المائة من المكتتبين)، ذهبت حصيلة 22 شركة من 28 شركة بعلاوة إصدار إلى المساهمين البائعين، وشركة واحدة فقط حصل مؤسسوها البائعون على 50 في المائة من حصيلة الاكتتاب، فيما حصلت 5 شركات على حصيلة الاكتتاب كاملة، كما وصل عدد الشركات بعلاوة إصدار التي يحق للمؤسسين البيع بعد 6 أشهر فقط من إدراجها إلى 26 شركة، وشركتان فقط يحق لهما البيع بعد مضي 3 سنوات! اليوم نقف حتى إغلاق الأربعاء الماضي على أسعار 13 شركة منها تحت سعر الاكتتاب، بعضها وصل إلى أكثر من 70 في المائة. هذا فيما يتعلق بملخص مشاهد ذات العلاوات، أما ما يتعلق بمشاهد الأخريات فإن شركات التأمين تمثل المشاهد الأكثر دراماتيكية، التي وصل عددها إلى 30 شركة، أدرج منها 27 شركة، و3 شركات على لائحة الانتظار. اللافت أن من 27 شركة تم إدراجها حتى اليوم يوجد 20 شركة خاسرة من رأس المال، وصل بعضها إلى حد الإفلاس بخسارة بلغت 60 في المائة من رأس المال!
ألا تريد حجم مساهمة تلك الشركات التي أدرجت بعلاوة إصدار في أرباح السوق السنوية حتى نهاية الربع الأول من 2010م؟ خاصة أن علاواتها الباهظة بُنيت على أساس التوقعات المتفائلة بمستقبلها المتنامي بعد الإدراج (أو التخارج بمعنى أدق)، إلى آخره من مصفوفات الأرقام والتوقعات مما تضمنته نشرات إصدارها المعدة من المؤسسات المالية المرخصة من الجهات الرسمية! نعم، لقد وصل صافي هوامش أرباح تلك الشركات حتى نهاية الربع الأول من 2010م إلى نحو 841 مليون ريال فقط، أي ما نسبته أقل من 1.3 في المائة من المكاسب الصافية للسوق (البالغة أكثر من 65.4 مليار ريال). تذكر أن المكتتبين دفعوا أكثر من 35.4 مليار ريال لقاء هذه الأرباح الدسمة! أما شركات التأمين فلم تتجاوز المكاسب الصافية المتحققة سقف 38.8 مليون ريال، ولا أزيد على هذا.
إنَّ فحص الظاهرة (الاكتتابات) من أعماقها يسبب أحيانا صدمة مؤلمة، وأكثر الاكتتابات على مستوى أسواق المال العالمية، ملايين المكتتبين الذين يندبون حظهم العاثر اليوم بخسائر رأسمالية فاقت 70 في المائة رؤوس أموالهم! في مطبات بعض شركات التخارج، أو شركات حديثة التأسيس (التأمين) بعضها تجاوز العامين ولم تبدأ بنشاطها وتراها أول المصطفين في طابور المطالبة بزيادة رأس المال. غير أنه مقام واجب التوقف عنده لما بعد من اكتتابات قادمة، ومن ضرورة وضع استراتيجيات واضحة ومحددة تأخذ بعين الاعتبار المصلحة العامة للاقتصاد الوطني، قبل أن نخضع لاشتراطات ومصالح المؤسسين الضيقة الأفق، وأن ترتبط سياسات وآليات الإدراجات الحديثة في السوق المالية بمعايير الكفاءة، والعدالة في تسعير أصولها، ومدى جاذبيتها الاستثمارية، ومستويات المخاطر المحيطة بتلك الإدراجات. لكل أطراف تلك الاكتتابات، إن جهات رسمية كانت، أو شركات مساهمة يمتلكها رجال أعمال ومؤسسون، أو شركات استثمار ومتعهدي تغطية، أو شركات مالية ومحاسبية.. لجميع تلك الأطراف نؤكدها في هذه المرحلة الحرجة من عمر السوق المالية السعودية، ألا عيب في الاعتراف بالأخطاء، بل كم هو جيد أن يتم الاعتراف بها لمعالجتها، والبدء بتنفيذ نتائج المراجعة والتدقيق. ولنتساءل: إلى أين سينتهي بنا هذا الطريق من التساهل أو التهاون أو التغاضي عن أية مخالفات أو تلاعب في المراكز المالية الحقيقية لأي من الشركات المزمع طرحها؟! هل سينتهي بنا المطاف بعد عقد أو عقدين من الزمن لنجد أنفسنا أمام أكثر الأسواق المالية هشاشة، وأقلها ربحية، وأكثرها مخاطر؟! ألا يكفي ما لدينا من العديد من الشركات الضاربة جذورها منذ تأسيسها في مستنقعات الخسائر والفشل الذريع إدارة وتشغيلا، حتى لقد أعلنتها صريحة بعض من تلك الشركات (البائرة) ألا مشاريع لديها منذ سنوات عدة، كإيضاحات منها (رغما عنها) حول أسباب خسائرها التراكمية؟!
الحديث مجرَّد عن زيادة عمق السوق من جانب عدد الشركات فقط، أو من جانب عدد خيارات الاستثمار، أو من جانب عدد الأسهم المدرجة، أو من أي جانب يغفل القيمة المضافة لتك الشركات.. أؤكدها صراحة أنه ليس إلا (مأزقا) ننصبه لمستقبل اقتصادنا الوطني وسوقنا المالية، وأننا حملنا لمستقبلهما ومستقبل المجتمع السعودي (قنابل موقوتة) يمكن إذا انفجرت في وجه الأجيال القادمة أن تحرق الأخضر واليابس! وليست منابع انفجار الأزمة المالية العالمية عنا ببعيد، فهلا اتعظنا بما أصاب غيرنا من الأقوام، أم أننا نمضي في طريق وعر شئنا بملء إرادتنا، ودون استشعار للمسؤولية من قِبلنا أن نصبح نحن عبرة للعابرين؟! وصدق علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - بقوله: العاقل من وعظته التجارب. والله ولي التوفيق.
* عضو جمعية الاقتصاد السعودية
me@abdulhamid.net