Al Jazirah NewsPaper Friday  30/04/2010 G Issue 13728
الجمعة 16 جمادى الأول 1431   العدد  13728
 
بعض الأبواب لا تعشق القرع عليها
محمد أحمد عسيري

 

في غرفتها المنعزلة عن صخب المجرة جلست أمام مرآتها المستديرة تتحسس وجهها، وما ذهبت به الأيام من بهاء

أخرجت من درجها الصغير (مكحلة) قديمة منقوش عليها عصفور يحلق حول عش محبوبته

نظرت للعصفور بشوق مصحوب بزفرات هادرة ويدها تداعب جناحيه المبسوطة في ثغر الأفق الحالم

سقطت من عينيها دموع في غفلة منها فبادرتها بمنديل وردي منذ زمن وهو لا يفارقها

استعاذت بالله من تلبيس الشيطان ووسوسته..

حركت المرود النحيل في قلب مكحلتها النحاسية ومدته لأجفان ذابلة كغصن أرهقه موسم خريفي طويل

رسمت خطاً أسود يكاد يرى في كلتا العينين وأعادت المكحلة بهدوء لدرجها السندياني العتيق.

في الدرج المقابل كومة من ورق متشابك قديم يبدو عليه الوهن

تستل من تحته قصاصات مزركشة الأطراف

تضمها لصدرها وتنهض مهمومة لسريرها القريب من نافذتها الغربية

تنثر القصاصات وتبدأ في تقليبها بعشق يكتنفه الصمت الساكن في شرايينها

تسحب قصاصة مؤرخة في أعلى الصفحة.. الخميس - 1994 بعنوان اشتقت إليك.. لا تغب أكثر

تعبر بنظراتها الممسوحة بهالة من الحزن الأنثوي الساحر فوق الكلمات

تعظ على شفتها السفلى برقة وكأنها تستعيد لحظة الود التي ارتمت مع الحبر في حضن الورقة

ترفع رأسها للسقف وتخرج ما في صدرها من هواء ممزوج بكآبة اللحظة

وتضع القصاصة جانباً وتستل أخرى..

تحدق بها بشيء من الصعوبة فالخط صغير للغاية وبصرها لم يعد بصر صبية بضفائر مجدولة

في زاوية الورقة العلوي مكتوب بحبر أحمر داكن.. الثلاثاء - 1998 العنوان.. الحياة توقفت عند موعد رحيلك..

تعود للوراء، تستدعي الأمس الدافئ، وخصلة شعر لم يعبث برونقها خريف العمر

وكأنها تعاتب السنوات التي تركتها بجوار نافذة خرساء

وأبواب موصدة، وشتاء رسم برودته على جبين كل الفصول..

صوت الرعد يأتي من خلف زجاج النافذة الذي بدأت تبلله حبات المطر. إنه موسم شتاء آخر

تنهض رويداً رويداً.. تقترب من نافذتها التي باحت لها بكل أسرارها

تنظر للمطر القادم من سحابة عابرة وهو يعكس أنوار المصابيح

يأسرها المشهد، وتأسرها أكثر السحابة !

تتساءل: كيف تستطيع هذه السحابة أن تروي عطش الأرض وقلوب الناس وترحل تاركةً

ماءها، وحنينها الذي عاش معها كل هذه المسافات ؟

يطول النظر عبر النافذة ولا يسلبها من سفرها البعيد سوى لفحة برد لامست جلدها، تمد يدها البيضاء

المشعة لوشاح بلون الفيروز لعله يطرد بعض البرد..

تعود لسريرها ولقصاصاتها الغابرة..

تمرر أصابعها فوقها واحدة واحدة وكأن الورق يطمئن ويشعر بالدفء يسري فيه من جراء لمساتها الحانية.

صوت قرع خافت على الباب..

تقف ملهوفة وجسدها يرتعش.. هل يعقل أنه جاء ؟

تركض نحو الباب بخفة سكنت قدميها لم تعهدها منذ زمن

تمد يدها لقبضة الباب الباردة

تنظر للخارج.. وبصوت مبحوح تهمس للعراء.. من الطارق ؟

فلا يجيبها غير الزمهرير..

تعاود المناداة بصوت مرتفع لعل الطارق يجيب.. من هناك ؟

فيرد الرعد يملأ الأرجاء لحظات ويغيب

يزداد المطر هطولاً.. سحابة تذهب وتأتي أخرى

في يأس معتاد ترجع بخطوات غير التي نهضت بها، تدس نصفها السفلي داخل لحافها البني وتمد يدها

لشمعة شبه ذائبة، تشعلها لعلها تُذهب رهبة الطارق الوهمي.

من بين القصاصات المهملة

تسحب قصاصة بيضاء كيدها المرتجفة، هي الأخيرة التي لم يلثم صفاءها الحبر

تنحني برفق وأنفاسها تتسارع

في أعلى الصفحة البيضاء المستسلمة تخط التاريخ..

الأحد - 2002 العنوان.. بعض الأبواب لا تعشق القرع عليها

تدعها بلا كلمات وتصمت..




 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد