جدار الصمت ينتصب بيننا ساداً لغة التواصل. صمت موحش كصمت الخرائب المهجورة. عبثاً حاولت تحطيم ذلك الجدار بغرس شريط في فم مسجل السيارة، انبعثت منه ألحان عذبة ارتد عليّ صداها كموج بحر هائج.
أطفئْ المسجل.
استجبت لطلبها بحمحمة خيل مكسور، أطلقت بعض الطُرَف التي كانت في الماضي تستملحها لترطيب الأجواء الجافة والمتيبسة، ازدادت عبوساً وأشاحت بوجهها صوب النافذة. كان البحر بزرقته اللامعة ينعكس في عينيها العسليتين فيزيدها بهاءً، ورائحته الرطبة تعبق في الأجواء الجافة بيننا، والهواء العليل يداعب خصلات شعرها المتدلية على عينيها وهي تحدق في البحر بصمتٍ دفين، جذبني منظرها رغم الحزن الطافح على مآقيها.
أعدكِ المرة القادمة بألا أنسى هذه المناسبة.
وعودك كثيرة ووفاؤك قليل!
صدقيني بأن الذاكرة بدأت تضعف.
هذا ليس عذراً، فبإمكانك تدوين ذلك في ورقة؛ لتفادي النسيان.
سأحرص على تدوين كل شيء تطلبينه مني، ولكن أرجوكِ سامحيني.
***
ليست المرة الأولى التي نختلف فيها، وتتشنج العلاقات فيما بيننا.. آخ خ.. لولا ضعف الذاكرة هذه الأيام رغم أني للتو دكّيت عتبة الثلاثين! كيف نسيت مثل هذه المناسبة المهمة؟! ربما الديون ومصاريف المنزل شتت تفكيري رغم عامنا الأول على الزواج! ربما أفرطت في أكل الجِبن المثلث هذا الشهر! الله لا يعطيك العافية يا «فريد» حين أشرت عليّ بتخفيف وزني، وإعطائي حمية ملأى بالجِبن؛ فقد جعلت ذاكرتي تخفّ قبل أن يخفّ كرشي.
للجبن مائة وستة وثلاثون صنفاً في فرنسا وحدها، ومن بين تلك الأجبان في العالم لا أستسيغ إلا الجبن المثلث للبقرة الضاحكة! وفي حين كنت أذهب إلى البقال وقد أوصتني زوجتي بإحضار خمسة أشياء كنت أعود بغرضين فقط! وفي أحسن الأحوال أتذكر ثلاثة أشياء وأنسى الباقي؛ فينشب الخلاف بيننا. لم أكن أستسيغ الذهاب إلى البقال خصوصا بعد عودتي من العمل مباشرة، أو حين أشاهد المباريات في التلفاز؛ لذلك كنت أشترط عليها كتابة ورقة صغيرة ووضعها في جيب الثوب قبل ذهابي للعمل.
***
فريد كان فريداً من نوعه بحق؛ فبإلاضافة إلى ذكائه الفطري الحاد كان مهووساً بالصحة! فجيبه لا يخلو من فصوص الثوم وحبة البركة! أما درج السيارة فقد كان يعج بالأعشاب والنباتات العطرية! ناهيك عن منزله الذي تحول إلى محل للعطارة.
تحول الاهتمام بالصحة لديه إلى هوس حين قرأ كتاب الطب لابن سينا، و»ابقراط « وطب النبي (ص)، وكتاب داوود الأنطاكي. ولم يقتصر الأمر على ذلك؛ بل أصبح يبحث في الشبكة العنكبوتية والكتب المعاصرة في التغذية، وحين عرضت عليه مشكلتي مع النسيان لم يتردد في إعطائي وصفة سريعة مكونة من سبع حبات من زبيب أحمر وحبة البركة، وملعقة عسل، تؤخذ كلها دفعة واحدة على الريق، وبعدها أبدأ في حل الكلمات المتقاطعة لمدة أربعين يوماً، والابتعاد عن التوترات الذهنية، والنوم باكراً، والأهم من ذلك الابتعاد عن أكل الجبن.
استمررت على هذه الوصفة وطبقتها بحذافيرها، وبعد الشهر تقريبا لاحظت تغيراً ملموساً في الذاكرة واتقاداً في الذهن وجلاء في التفكير، إلا أن مشكلتي مع السمنة بدأت تتفاقم وكرشي بدأ يتهدل. لم أتردد في الاتصال على فريد وأخذ المشورة منه؛ فهو الأقرب إلى النبض من بقية الأصدقاء. نصحني هذه المرة بريجيم الدكتور «حسين دشتي»، وهو عبارة عن الامتناع عن النشويات والفاكهة والسكاكر فقط، وأكل ما شئت من اللحوم والخضراوات، إضافة إلى ممارسة الرياضة اليومية بانتظام. استمررت على هذا النحو أكثر من عشرة أيام، وقد لاحظت آثار الريجيم سريعة هذه المرة، فجسمي أصبح مقدوداً والكرش زال تماما، إلا أن صحتي بدأت في التراجع؛ فوجهي أصبح شاحب اللون، وجسمي أصبح أقرب إلى الذبول كشجرة جدبت تربتها واصفرت أوراقها في أول مواسم التفتح! لم أقوَ على النهوض من السرير هذا الصباح، وكنت أسمع كأن حفيف أجنحة ملائكة الموت ترفُّ فوقي، فاتصلت زوجتي بالإسعاف وأتوا على الفور. حملوني بالنقالة وأنا أوصي زوجتي بوصاياي الأخيرة ومن ضمنها الاتصال بصديقي فريد لألقي عليه النظرة الأخيرة قبل رحيلي من الحياة.
أدخلوني المشفى وبقيت فيه نحو الأسبوع، أعطوني أدوية كيماوية ومحاليل وريدية، وفيتامينات صناعية، إضافة إلى كيسٍ من الدم. أتت زوجتي وفي يديها باقة من الأزهار. شكرتها على بالغ ودها وسألتها على الفور عن فريد.
هل اتصلتِ به؟ منذ أيام وأنا أتصل به وهاتفه مغلق..!
أطرقت برأسها وقالت:
لن تستطيع رؤيته بعد اليوم! فلقد عانقت روحه السماء.. أخبرني عياله بأنه توفي في اليوم نفسه الذي أُدخلت فيه المشفى متأثراً بسرطان القولون.
بعد أيام تعافيت تماماً بعد أن كنت أظن أن المشفى هو عبارة عن «مسالخ بشرية» من يدخل فيها مشياً يخرج منه محمولاً على الأكتاف!.