الحياة وجود ماثل، وجاثم، تطحننا ونطحنها، والفن رؤى وخيالات وأوهام، تعزينا ونستمرؤها.. لا يصلح الفن بديلا للحياة، ومع ذلك بدونه لا تطاق.. أليست هذه حكمة فيلسوف مثل نيتشه: «نحتاج الفن كي نستطيع الحياة»؟!
يقولون إن وطأة الأشياء وضغوطها على وجدان الفنان تؤجج فيه رغبة الهروب، سفر دائم بين الذاكرة والحلم، هذه تأتيه من الأغوار السحيقة لظلمة الماضي بمذاق العلقم، وذاك يمنيه بفك أسرار الفراشات دون أن يظفر في الدنيا بصيد إلا تفويت زمن المتعة الفنية من حسابات القهر وقبضة العراك واصطدام الرأس بالجدار.
هنا في ملكوت الفن اللوحة التشكيلية قصيدة عصماء، والقصيدة زخم من الصور والرؤى بألوان الطيف، والمعزوفة ترسم في الأفق قصيدة بألوان اللوحة.. يا الله، كم نحن بحاجة إلى ذائقة مرهفة تمسك بطرف من رؤى الفن.. مدارسنا تعلم قواعد الصنعة لا صقل الذائقة فعلى أي شيء أو على من نعول في تحريك المهمة ؟
من هنا تنطلق تجربتنا في مدارس مكتب إشراف البديعة، لا نكتفي بالإرشاد إلى المحسنات البديعية مثل كتب ناطقة للبلاغة، ولا نكتفي ببيان الصورة الشعرية في القصيدة وشرح بعض دلالاتها، ولكننا نحرك في الناشئة ذائقة التلقي، ندربهن على اصطياد الصورة أولا، ثم ردها إلى موقعها من ملكوت الفن والمعين الذي خرجت منه وبأي الدوافع ومن أجل أي الأهداف، هذا درس أولي بسيط في إدراك مباحث فلسفة الجمال: الماهية والمهمة والأداة، يأتي بعده الدرس الثاني في الترجمة من لغة بلا مفردات إلى أخرى بلا معجم.. ترجمة الصورة الشعرية التي تتشكل من نسق موسيقي في القصيدة إلى صورة تشكيلية تتألف من نسق لوني وخطوط.. هنا تمارس الطالبة انخراطها مع فعالية فنية في التلقي وفي الإبداع تفضي بها إلى أن تكون شاعرة تلون صورها في لوحة أو رسامة توزع ألوانها على نسق الموسيقى في الشعر، لتكون بذلك قد تأهبت لخطوتها الأولى في ملكوت الفن. تجربتنا اعتمدت رسم تلميذات المرحلة الثانوية للنصوص المقررة في مادة الأدب للصفين الأول والثاني الثانوي و كنا مملوءات بالخوف من غرابة التجربة، وما إن عرضنا الأمر على معلمات اللغة العربية والتربية الفنية حتى تفاعلن وأثرين الفكرة بآرائهن ومقترحاتهن وشجعن الطالبات لتأتي النتائج الأولية من لوحاتهن مؤكدة أن الفنان طائر بلا أجنحة، يدخل ملكوت الفن بلا إذن ويخرج منه بفراشات ملونة وعازفة يدرأ بها غمة الحزن والأسى ولو إلى حين. وأن معرض (ريشة في سماء قصيدة) الذي يشرف على تنظيمه مشرفات اللغة العربية والتربية الفنية بمكتب الإشراف التربوي بالبديعة معرض يستحق الرعاية والدعم.