اهتمت العلوم الاجتماعية بتخصصاتها المختلفة بقضايا التحضر لارتباطها الوثيق بالتغير الاجتماعي، وبتوزيع السكان، والتنمية، وتوفر الخدمات، وبقضايا الهجرة، والحراك الاجتماعي،.....
.....والجريمة وغيرها من القضايا الاجتماعية، وقد شهدت دول الخليج العربية حركة تحضر سريع في العقود الثلاثة الماضية، ولمعالي الأستاذ الدكتور خالد بن محمد العنقري وزير التعليم العالي اهتمام خاص بهذا الموضوع فله بحث بعنوان (تأثير توطين البادية في التحضر بالمملكة العربية السعودية) وترجم كتاب (التحضر في دول الخليج العربية)، وله بحث بعنوان (تقدير عدد سكان المدن السعودية الصغيرة باستخدام الصور الجوية) وبحث بعنوان (مواجهه مشكلة الإسكان في الدول النامية:النموذج السعودي) وغير ذلك من البحوث والدراسات.
ويمكن تقسيم التحضر في دول الخليج العربية إلى مرحلتين، مرحلة التغير البطيء ويمتد من عام 1351هـ إلى عام 1395هـ ومن أهم خصائصه أن المدن في تلك الفترة كانت صغيرة، وبعضها كان يحيط به سور له بوابات تفتح في النهار وتُغلق في الليل، وأن نسبة قليلة من السكان يعيشون فيها، وكانت درجة التجانس والترابط بينهم عالية، وكان بينهم تقارب في المستويات التعليمية والاقتصادية، وكان الترابط بينهم في معظمه آلياً يقوم على روابط الدم، وروابط العادات والتقاليد والقيم والثقافة، وشهدت تلك الفترة عملية توطين البدو التي مهدت لاستقرارهم، وانتقالهم إلى المراكز الحضرية فيما بعد.
وكانت مواد البناء تأتي مما توفره البيئة المحلية، وكان لكثير من المدن طابعُها وفنُّها المعماري الخاص، وكانت البيوت متلاصقة في معظمها، والممرات بينها ضيقة، وتتكون من طابق واحد في الغالب، وكان من المألوف رؤية الدواب في شوارع المدن للنقل والاستفادة من منتجاتها، وبيعها، وكانت الخدمات فيها ضعيفة أو معدومة، مثل الخدمات الصحية والتعليمة والمواصلات والاتصالات، وقد دخلت إليها الكهرباء في مراحل متأخرة نسبياً، وكان السكان يعتمدون في الوقود على الحطب، ثم في مرحلة لاحقة على مشتقات النفط.
كانت نسب التحضر في تلك الفترة مابين 10% إلى 30% أما بقية السكان فكانوا يعيشون في الأرياف والبوادي، على اختلاف في النسبة بين الدول، وكان سكان المدن يعتمدون في دخلهم على الوظائف الرسمية وعلى التجارة، وعلى الحرف اليدوية والنقل، ولم يكن هناك عمالة أجنبية كبيرة إلا في مجال التعليم، فقد اعتمدت دول الخليج على معلمين من دول عربية شقيقة ولم تعرف تلك الفترة وجود خادمات في المنازل، فالمرأة كانت تقوم بكثير من الأعمال في منزلها في المدينة، وفي منزلها وخارجه في البوادي والأرياف، ثم بدأت منتجات الحضارة تنتشر ببطء خلال تلك الفترة مثل السيارات، والمذياع، وأدوات الطبخ، وكان كثير من السكان يترك أسرته في البادية أو في الريف لعدم قدرته المادية على استئجار منزل والصرف عليه، ثم لحاجة أسرته الممتدة إلى أفراد أسرته النووية في العمل في الزراعة والرعي، ونمت المدن في تلك الفترة ببطء شديد، وبدأت أدوات البناء تتغير، فحل الطوب محل اللبن، والتسقيف بالخشب المستورد محل التسقيف بأخشاب الأشجار المحلية، ثم بدأ استخدم الإسمنت المسلح الذي ساعد على تعدد الطوابق، وساعد في توفير السكن للأعداد المتزايدة من السكان.
وفي عام 1393هـ - 1973هـ قُطع النفط عن الدول المؤيدة لإسرائيل، فتضاعف دخل دول الخليج، وبدأ ما عرف بمرحلة الطفرة، وبدأت المرحلة الثانية وهي مرحلة التغير السريع، وكانت السرعة واضحة في مجال التحضر، حيث تسارعت وتيرة الهجرة من الأرياف والبوادي إلى المدن، لكثرة عوامل الجذب في المدن مثل الوظائف، والخدمات المختلفة، وكثرة عوامل الطرد في الأرياف والبوادي، وبدأت المدن تتوسع بسرعة كبيرة، حتى تضاعفت مساحاتها، وتضاعف سكانها عدة مرات خلال ثلاثة عقود ونصف تقريباً، وأصبحت ظاهرة التحضر في دول الخليج تتسم بعدد من السمات من أبرزها:
1- انتشار الطراز المعماري العالمي، وفقدان الهوية المعمارية القديمة لكل مدينة.
2- كثرة العمالة الوافدة حتى طغت في بعض الدول على السكان المحليين، وقد أثر ذلك على اللغة، وعلى الثقافة، وعلى الأمن، وعلى الصحة، وعلى الخبرات العملية للمواطنين. 3- تحولت الأسر الحضرية إلى أسر مستهلكة، وفي العقد الثالث من القرن الخامس عشر الهجري زادت أوقات الفراغ، وزادت معدلات البطالة في بعض الدول الخليجية.
4- تعرضت الأسرة بسبب التحضر إلى كثير من التغيرات، فشاركت المرأة في العمل خارج المنزل، ولكن العمالة المنزلية تزايدت، وخاصة الخادمات والسائقين، وبدأ حجم الأسرة يتناقص، وبدأت الأسرة النووية تحل محل الأسرة الممتدة، وتزايدت الأمراض الأسرية مثل تزايد نسب الطلاق، والعنف الأسري، وضعفت الروابط والعلاقات الاجتماعية.
5- تعاني معظم مدن الخليج الكبيرة من الزحام، والتلوث البيئي، ونقص في بعض الخدمات.
6- ومن سمات المدن الخليجية الحرص على الخصوصية الأسرية، والمبالغة فيها أحياناً، وهذا تعكسه الأسوار، وتقسيم المنزل إلى قسم للرجال وقسم للنساء.
7- انتقال الكثير من سمات الحياة البدوية والقبلية من الأرياف والبوادي إلى المدن بسبب الهجرات البدوية والريفية إليها.
8- قلة المساحات الخضراء.
9- كثرة الأسواق والمحلات التجارية.
10- تعتمد مدن الخليج العربية على مياه البحر المحلاة لتوفير هذه المادة الحيوية لسكانها.
11- تعاني مدن الخليج من ظروف بيئية قاسية تتمثل في ارتفاع درجات الحرارة، وتزايد التصحر، وكثرة التعرض للعواصف الترابية، وقلة الأمطار.
12- أفرزت ظاهرة التحضر والطفرة المادية جيلاً يتسم بالتهاون، وعدم المبالاة، وعدم المحافظة على المنشآت والمال العام (الكتابة على الجدران، سوء السلوك المروري، إهدار الأموال ومنها المياه، وإهدار الوقت، عدم الحرص على تطوير الذات، عدم احترام الأنظمة، التمرد على الوالدين وعلى السلطات الخ....).
14- أصبحت مدن الخليج مدناً ساهرة، لا تتوقف الحركة فيها ليلاً ولا نهاراً.
15- لا توجد في دول الخليج الكبيرة ظاهرة المدينة المسيطرة، مثل القاهرة في مصر، أو طهران في إيران، فأكبر مدينة لا يبلغ سكانها ضعف سكان المدينة التي تليها.
16- قَلَّت درجة التجانس بين سكان المدن الخليجية، وكثرت فيها أعداد الجنسيات المختلفة، وأصبح الترابط عضوياً يقوم على تبادل المصالح، وإن بقي هناك بعض مظاهر الترابط الآلي بين الأسر الكبيرة، والمهاجرين من قبائل ومناطق متشابهة.
17- بدأت في بعض مدن الخليج ظاهرة المدن الصناعية مثل الجبيل وينبع القائمة على الصناعات البتر وكيماوية المعتمدة على النفط ومشتقاته حيث تتمتع دول الخليج بميزة نسبية في هذا الجانب، وفي فترة لاحقة، بدأت ظاهرة المدن الاقتصادية، مثل مدينة الملك عبدالله الاقتصادية في المملكة العربية السعودية، ومدينة مصدر في الإمارات، والمدينة الزرقاء في سلطنة عمان.
ورغم كل تلك السلبيات فإن المدن الخليجية تتمتع بكثير من الإيجابيات التي تتحدث عن نفسها لمن يزور تلك المدن ومنها الطرق، والإنارة، والانفتاح على العالم، والمباني الحديثة، وتوفر الخدمات التعليمية وخدمات الاتصالات والمياه والصحة لنسبة كبيرة من السكان، وقلة الأحياء العشوائية. وقد ركزنا في هذا المؤتمر على إبراز مشكلات المدن لأن الشعوب الحية تسعى دائماً إلى تلمس جوانب القصور والنقص لديها لتعمل على معالجتها وحلها، والحد من تزايدها وتفاقمها. ولقد تنبهت حكومة خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود وفقه الله وحفظه لمشكلات التحضر فرسمت خططاً لتشجيع الهجرة العكسية إلى الأرياف، وتخفيف الضغط على المدن، فقامت بإنشاء الكثير من عوامل الجذب في الريف مثل الجامعات والمستشفيات، والمدن الصناعية، وتوسيع مجالات الفرص الوظيفية، ونتوقع أن تؤتي تلك السياسات الحكيمة أكلها في المستقبل القريب، خاصة إذا أضفنا لها ما يتوفر في بعض من المدن من عوامل الطرد مثل الزحام، وغلاء المعيشة، والتلوث، ومشكلات الإسكان، وارتفاع معدلات الجريمة وغيرها.
أستاذ علم الاجتماع في جامعة الإمام، رئيس الجمعية السعودية لعلم الاجتماع والخدمة الاجتماعية
Zahrani111@yahoo.com