كنت قد كتبت مقالة عنوانها (هذا هو العصر الصهيوني)، ونشرت في هذه الصحيفة الغراء عام 2003م، أي العام الذي احتل فيه أعوان الصهاينة بلاد الرافدين. وكان مما قلته في تلك المقالة:
لقد بدأ اليهود جهودهم المكثفة لفرض نفوذهم على العالم بوسائل متنوعة منذ زمن بعيد. وكان من تلك الجهود بث مبادىء الماسونية التي راقت لعدد من ذوي المكانة السياسية والاجتماعية في أقطار المعمورة، وبخاصة المتقدمة علمياً واقتصادياً، مثل أوروبا وأمريكا. ثم نشطوا على مسرح الأحداث بترسيخ فكرة الصهيونية التي لم يقتصر اعتناقها على فئات من اليهود فحسب، بل أيدها واعتنقها فئة لا يستهان بها عدداً ومكانة من المسيحيين أيضاً. وأصبحت كل من الماسونية والصهيونية تكمل الواحدة منهما الأخرى.
ولقد تكلمت في المقالة المشار إليها باختصار عن نفوذ الصهاينة في الغرب، وبخاصة في أمريكا وبريطانيا وفرنسا. أما نفوذهم في أمريكا، وهي ذات الصولة والجولة في العالم منذ الحرب العالمية الثانية، فيعلمه الكثيرون. وأما نفوذهم في بريطانيا واضعة بذور نكبات أمتنا في فلسطين بخاصة فقد تحدثت عن شيء منه في مقالة نشرت في صحيفة الجزيرة، أيضاً عام 2004م، بعنوان: (من تاريخ التصهين البريطاني). وأما فرنسا فلم يقصر كثير من رجالاتها في إظهار ولائهم للصهاينة. وقد كسب هؤلاء قادة الثورة الفرنسية إلى جانبهم. ثم أتى نابليون الذي كان أول رجل دولة غربي يقترح، عام 1799م، إقامة دولة يهودية في فلسطين ويكلم اليهود بذلك. وفي عام 1956م اشتركت فرنسا مع بريطانيا والكيان الصهيوني في عدوان ثلاثي على مصر كان من نتائجه استيلاء الصهاينة على مزيد من أرض فلسطين، وترسيخ لاغتصابهم ما سبق أن اغتصبوه منها، ثم مرت سنوات وهي الممد للكيان الصهيوني بطائرات الميراج الحربية المتقدمة حينذاك. بل كانت عونه وسنده في إنشاء مفاعله النووي في صحراء النقب.
ولقد نشرت كل من المقالتين المشار إليهما سابقاً ضمن كتاب نشرته دار الرائي في دمشق، عام 2005م، بعنوان مقالات عن الهم العربي.
وإذا كان ما أشير إليه متناولاً باختصار شديد نفوذ الصهاينة في الغرب ممثلاً في ثلاث دول هي أمريكا وبريطانيا وفرنسا فماذا عن نفوذهم في روسيا، قيصرية سابقة وثورة على تلك القيصرية؟ كانوا ينخرون في جسد تلك القيصرية تهيئة لثورة تكون فيها لهم الكلمة العليا والمكانة الأولى. وممن تحدث عن دور اليهود - وأغلبهم صهاينة - في الثورة البلشفية التي أطاحت بالقيصر الروسي، عام 1917م، الكاتب الأمريكي ديفيد ديوك، وذلك في كتابه الذي نشر سنة 1998م بعنوان ترجمته بالعربية الصحوة، وترجمه إلى العربية الدكتور إبراهيم الشهابي، فصدرت الترجمة عن دار الفكر بدمشق عام 1423هـ. ومما قاله ديوك للتدليل على ذلك الدور ما يأتي:
إن بطاقة بريدية وزعت على نطاق واسع في الشهور التالية للثورة البلشفية التي حدثت في روسيا، كانت تتضمن صور ستة من زعماء تلك الثورة، وهم: لينين، الذي كانت أمه يهودية، وكان يتكلم اليديشية في بيته ومتزوجاً من يهودية، وتروتسكي - واسمه اليهودي ليف برونشتاين، وزينوفيف - واسمه اليهودي هيرش أبفيلباوم، ولونا كادسكي - وهو غير يهودي، وكامينوف - واسمه اليهودي روزنفيلد، وشيفر دلوف، وهو يهودي أيضاً.
وإضافة إلى ما سبق كان على رأس البوليس السري الروسي يهودي اسمه موسى أوريتزكي. وكان كبار أعوانه من اليهود وبينهم ياجودا - وهي كلمة روسية معناها (يهودا) - الذي أشرف على تنفيذ برامج راح ضحيتها أكثر من عشرة ملايين، وكان أقطاب الذين نظموا معسكرات الاعتقال الرهيبة ستة كلهم من اليهود. ولهذا كله لم يكن غريباً أن الحزب الشيوعي اتخذ خطوة لا سابقة لها في جعل التعبيرات (اللاسامية)، أي التي ضد اليهود، جريمة مضادة للثورة يعاقب عليها بالموت.
وكان الاتحاد السوفيتي ثاني دولة تعترف بشرعية وجود الدولة الصهيونية على أرض فلسطين. وخلال الحرب الباردة بين حلف وارسو المكون من الاتحاد السوفيتي والدول الدائرة في فلكه وحلف الأطلسي المكون من الدول الغربية وعلى رأسها أمريكا شهدت سنوات مرحلة وقف فيها ذلك الاتحاد - لأسباب ليس هذا محل ذكرها - مع العرب وقضيتهم الفلسطينية. لكنه ما لبث أن سمح بهجرة اليهود من البلدان التابعة له إلى الأراضي المحتلة في فلسطين بحيث ازدادت بهم قوة الكيان الصهيوني عدداً، كما صادر من أجلهم مزيداً من أراضي فلسطين المحتلة.
وفي زيارة الرئيس الروسي الأخيرة لسورية كان مطلبه الذي طلبه من خالد مشعل عند مقابلته إياه هو إطلاق سراح الجندي الصهيوني شاليط المعتقل لدى حماس.
لكنه لم يشر أي إشارة إلى أكثر من أحد عشر ألف سجين فلسطيني في سجون الكيان الصهيوني العنصري الذين هم نساء وأطفال ومراهقون. أعلم أن هناك أناساً منصفين في البلدان الغربية، وأن لهم مواقف نبيلة في مساندة الحق الفلسطيني القائم على العدل، وفي معارضة الظلم الصهيوني وجرائمه البشعة. فأكثر من وقفوا، ويقفون، ضد جدار الفصل العنصري في الضفة الغربية المحتلة من الغرب، وكثير من الجامعات في بريطانيا قاطعوا جامعات الكيان الصهيوني. بل إن هناك حملة قوية، يترأسها أكاديمي يهودي من داخل هذا الكيان، تنادي بمقاطعة جامعاته لما ارتكبه ويرتكبه زعماؤه من جرائم فظيعة ضد الفلسطينيين، وإن مئة جامعة في أمريكا استجابت لندائه، كما ورد في مقالة للدكتور عبد العزيز التويجري نشرت في صحيفة الحياة يوم الجمعة الماضي.
وأعلم، أيضاً، أن المحكمة الدولية أبدت رأيها بأن جدار الفصل العنصري غير شرعي ويجب أن يزال، وأن تقرير جولدستون صدر مديناً لمجرمي الحرب الصهاينة على جرائمهم، وأن هناك تنامياً واضحاً لإدراك شعوب العالم المضللة بالإعلام الصهيوني الشرير حقيقة الصهاينة وما يرتكبونه من جرائم. وكل هذا مقدر ومشكور وباعث على الأمل. لكني ما زلت أرى أن كل هذه المواقف النبيلة المقدرة المشكورة الباعثة على الأمل لم تغير كون العصر ما زال عصراً صهيونياً من الناحية العملية. ذلك أن من في أيديهم القرار الحاسم المؤثر في العالم ما زالوا منحازين إلى الصهاينة، تصهيناً عقيدة أو خوفاً على مناصبهم من النفوذ الصهيوني. وما زلت أرى أن هناك أمرين:
الأول: - وهو الأهم - أن ندرك نحن أصحاب قضايانا أن علينا وحدنا الاعتماد على الله ثم على أنفسنا لحل هذه القضايا بطريقة عادلة واتخاذ الوسائل الضرورية لتحقيق ذلك.
والثاني: أن ندرك بأن من لا يشاركوننا عقيدتنا لا يؤمل ولا يتوقع أن يقفوا معنا موقفاً جدياً عادلاً.
وما زلت عامياً يتملك تفكيري المثل العامي القائل: (اللي ما هوب على دينك ما يعينك).
على أننا - مع الأسف الشديد - نعيش في زمن لا يعنيك من هو ظاهرياً على دينك، بل يقف مع أعداء أمتنا ضدها. قد يأتي اليوم الذي يتبين فيه العالم على نطاق واسع حقيقة الصهاينة، فيقف ضد جرائمهم. بل قد يأتي يوم يدرك فيه القادة في بلدان العالم القوية أن وقوفهم مع العدل ضد الجور الصهيوني لن يفقدهم مناصبهم. لكن ذلك اليوم قد لا يكون قريباً بحيث يراه جيلنا البائس المنكوب.