حقيقتان لا يمكن أن يتجاهلهما أي إنسان، حقيقة بدء الحياة حينما تصرخ صرخة طفل يخرج للحياة.. حقيقة الولادة.. وبعد رحلة يظنها المرء طويلة يمضي الإنسان في دروب الحياة لتواجهه الحقيقة الثانية، ألا وهي مفارقة الحياة بالموت ..
حقيقة وإن غابت عن أصحاب البصيرة إلاّ أنها النهاية الحتمية كما أرادها الله واهب الحياة وصانع الحقيقتين.
أمس الأول جاءت الحقيقة الثانية، وغيَّب الموت الصديق والزميل الأستاذ عبدالهادي مصطفى الطيب، هذا الفلسطيني المثقف الذي تخصّص في ستر عورة الكتّاب الصحفيين لغوياً..
.. فأبو معتز كان كبير المصححين اللغويين، هكذا بدأت معرفتي به قبل أكثر من ثلاثة عقود، كنت حريصاً على أن يصحح المقالات التي أكتبها سواء كانت افتتاحيات الجزيرة، أو مقالات أضواء، بل حتى القصائد التي كنت أعتقد أنها شعرٌ والتي أشفاني الله منها.
طوال أكثر من ثلاثين عاماً، كانت لي مع هذا الغزّاوي جلسات فكرية، وكنت أكنُّ له تقديراً واحتراماً، لأنه كان يهذِّب كثيراً من الأخطاء اللغوية التي كنت ارتكبها في المقالات التي أكتبها، ورغم قلّة الأخطاء، لأنّ لغتي - كما كان يؤكد الأستاذ أبو معتز - (قرآنية)، فمن يتعلّم ويحفظ كثيراً من سور القرآن الكريم تتحسّن لغته كتابةً وقولاً.
عرفتُ الأستاذ عبدالهادي مصطفى الطيب في مبنى الجزيرة السابق في الناصرية، وكنت دائماً بعد أداء صلاة المغرب وبعد صلاة العشاء أجلس معه، أتجاذب معه أطراف الحديث التي كانت لا تخرج عن أدب اللغة، ونوادر اللغويين، وكنا نعرج بالحديث في أحيان كثيرة عمّا يجري في بلده فلسطين، فالقضية كما يؤكد بأنها قضيتي هي الأخرى، وأنها تستوطن فؤادي مثل أي فلسطيني.
في الأيام الأخيرة من حياته - رحمه الله -، أصبح حاملاً لكلِّ الأمراض المزمنة، مرض السكري والضغط وارتفاع الكولسترول.. وغيرها من أمراض الشيخوخة، وزاد عليها فقدان ابنه البكر (معتز) الذي أورثه رعاية أبنائه، فأصبح الجد يعمل لكي يوفِّر الحياة الكريمة لأبنائه وأحفاده، وتقديراً لخدمته للجزيرة ولكفاءته، عيّنه الأستاذ خالد المالك رئيس التحرير، كعادته مع الذين خدموا الجزيرة وفاءً وتقديراً، مشرفاً لصفحات (الرأي) التي حملت في الأسابيع الأخيرة مسمَّى (وجهات نظر)، ليؤدي الرجل عمله بنفس الهمّة والإخلاص.. كان يحضر في المساء ليراجع مقالات القرّاء وينقحها ويرسلها صفحات إلى الأستاذ رئيس التحرير حتى آخر أيامه، عندما تلقيت خبر وفاته عبر رسالة جوال.. لتنتهي حياة فارس من فرسان الجزيرة.
رحم الله بإذنه تعالى عبدالهادي الطيب (أبو معتز) مودعاً إيّاه ومثنياً على وفائه وإخلاصه لأُمنا الجزيرة.
jaser@al-jazirah.com.sa