قبل أكثر من خمس سنوات وعندما كنت مديراً عاماً للتربية والتعليم راجعت وكيلاً أسبق لوزارة التربية والتعليم في مكتبه بالرياض، مطالباً بتعزيز العملية التعليمية في المنطقة عموماً والأقصى الجنوبي منها على وجه الخصوص، والذي يبعد عن مقر الإدارة العامة للتربية والتعليم أكثر من 250 كيلو، ومعزّزاً ما أقول بكل ما استطعت من أدلة وحجج وبراهين وخطابات وتظلّمات «لعل وليت وعسى»، ومع ضغطي على الزميل العزيز وإطالة الحديث معه عن هذه الإشكالية المتأزمة والمعقدة - في نظري-، قال لي: (... شف يا أبا صالح التعليم مثل الزرع تماماً، رشاش يأخذ دورته الطبيعية وكل جزء من هذه الأرض الطيِّبة يأخذ نصيبه من الماء، لكن جزماً كلما كنت قريباً من نقطة الدائرة «السنتر» كان حظك أوفر، والنتاج طبعاً أغزر وأمثل، وقد يكون حال الزرع في الأطراف، خاصة الأجزاء التي لا تهب عليها الرياح وتغيب عليها الشمس أكثر النهار، يابساً وربما ماتت السنبلة فيه قبل أن يأتي موسم الحصاد). كلام غريب ومثال عجيب، أتمنى من القارئ الكريم أن يعيد قراءته ويتأمل فيه جيداً وهو في إطاره العام يتناقض مع النظرة التي يؤمن بها ولي الأمر وأعلنها وما زال يصرح بها في كل محفل ومناسبة محلية. جدّد هذا المثال «رشاش القمح» وأعاد للذاكرة هذا القول «سنابل الأطراف والمركز» كلام الأستاذ عبد الله السمطي في «إيلاف الإلكترونية» يوم السبت الماضي 14-7-1431هـ (الجامعات الريفية.. هل هي جامعات من الدرجة الثالثة؟!) والذي منه: (... ومع هذا التوجه إلى نشر التعليم العالي خارج العواصم والمدن الرئيسية في البلاد العربية فإن ثمة معضلات تواجه هذا التوجه، ذلك لأن سؤال المستوى المعرفي لأكاديمي وطلاب هذه الجامعات الجديدة يظل موضع تساؤل كبير، حيث لا ينتسب إلى هذه الجامعات - على الأغلب- سوى الطلاب والطالبات من القاطنين لهذه المناطق البعيدة، ومن هنا سيظل تعليمهم تعليماً ريفياً، لأنهم لم يعايشوا حياة المدينة، فضلاً عن ذلك فإن الأكاديميين أنفسهم الذين سيحملون مشاعل العلم والمعرفة إلى هؤلاء الطلاب والطالبات يكونون دائماً من الصف الثاني والثالث والرابع، بل والعاشر الأكاديمي، لأن منتهى طموحهم كان هو الحصول على الدكتوراه بأي شكل وأية صيغة، بتحقيق مخطوطة، أو بالكتابة عن فلان الفلاني حياته وشعره، أو باجترار بحث أو نظرية علمية معروفة، وهم ليس لهم إسهام علمي أو بحثي كبير، ولا يشاركون في الحياة المعرفية العامة، وهم بعيدون عن حياة المدينة الصاخبة، وبالتالي هم بعيدون عن متابعة القضايا العامة، فضلاً عن القضايا التي تخص مجالاتهم العلمية، والأمر الأخطر هنا أن ثقافتهم وتحصيلهم يظل طيّباً وبريئاً لم تدنسه جرثومة التجربة، ولم تحككه المواقف أو الخبرة، وبالتالي سوف ينتجون لنا أجيالاً تقليدية، مطواعة، تؤمن بالمسلّمات، وتنعس تحت ظلال التقاليد...)، لقد حمل هذا النص شحنة عنصرية غريبة، ومغالطات عدة لا تليق بكاتب بحجم الأخ عبد الله، والإشكالية الحقيقية أن هذه النظرة لا تقف عند التعليم سواء العام أو العالي، بل تمتد إلى عدد من مناحي الحياة المختلفة والقطاعات التنموية - الخدمية الهامة، وليست هي نظرة هذا الشخص أو مجموعة أشخاص ينتمون إلى شريحة مجتمعية عادية ولها إطار محدد ومعقول يمكن مناقشته والحوار حوله حتى يفنّد وتوضح الصورة كما هي، بل إن هناك أناساً ممن يعيشون في المدن الرئيسة على وجه العموم وقد يكونون من حملة الشهادات العليا ينظرون إلى سكان المناطق الأخرى الأقل حظاً في التنمية سواء في الشمال أو الجنوب أنهم أقل من سكان المدن الكبرى تحضراً ومدنية!! وهي - في نظري- نظرة خاطئة لإنسان الأطراف أو أنها على الأقل نظرة مبالغ فيها وتحتاج إلى تقص وبحث ميداني واسع خاصة أننا في عالم اليوم نملك نفس الاستعداد ولدينا نفس الإمكانيات وأمامنا جميعاً نفس الفرص وكلنا في بلد واحد يولي إنسان الوطن جلَّ اهتمامه وفائق رعايته، كما أن ما ذكره الأستاذ السمطي عن نوعية الطلاب والطالبات وكذا الأكاديميون أعضاء هيئة التدريس المنتمون إلى هذه الجامعات الريفية - على حد قوله- ليس صحيحاً على إطلاقه ويحتاج هو الآخر إلى دراسة وتقص لا مبالغة وتجن، إذ إن منهم من حصلوا على شهاداتهم من أعرق الجامعات العالمية وبحوثهم متميّزة ومنشورة في أرقى المجلات العلمية العالمية، ومنهم من نالوا درجة الأستاذية في تخصصاتهم وشاركوا في مؤتمرات دولية مشهورة ومعروفة، وليسوا من القابعين في الصف الثالث أو... العاشر!! والمعيدون والمحاضرون مبتعثون اليوم لإكمال مشوارهم التعليمي في أشهر جامعات دول العالم المتقدم، وخريجو بعض التخصصات في هذه الجامعات الموصوفة بالدونية من قِبل الكاتب العزيز أفضل بكثير من الجامعات الكبرى في المدن الرئيسة، وإنني أدعو الأخ عبد الله وأمثاله إلى زيارة جامعة حائل مثلاً والاطلاع عن كثب ومن ثم الحكم، وبصدق من يقرّر ويقارن ليس أنا ولا الأخ عبد الله ولا حتى غيره من أصحاب الأقلام الذين يبنون ما يقولون على الانطباع الآني السريع، بل هم الباحثون وأهل الاختصاص وكذا المستفيدون من خريجي هذه الجامعات وبخاصة رجال الأعمال المنتمون إلى القطاع الخاص الذين عرفوا من خلال التجربة المميزات والمثالب لهذا الخريج أو ذاك.. وإلى لقاء والسلام.