أصحاب المهن هم المنتجون، والفاعلون، والبانون، هم الجهد الذي به يقوم البناء، ويعمر الفضاء، ويأكل الناس ويكتسون، ويركبون ويرحلون، وحق المجتمع أن يحترمهم ويقدر عملهم، ويرفع من شأنهم المادي والمعنوي، فبدونهم ليس للناس في هذه الدنيا مقام.
|
ورسول الهدى -صلى الله عليه وسلم- كان صاحب مهنة فقد رعى الغنم، واحتطب، وساعد زوجته في تحضير الطعام، وشارك في حفر الخندق. ولنا فيه أسوة حسنة.
|
لقد ترفع العرب في جاهليتهم عن المهن، تاركينها لغيرهم، فكانت تلك النظرة أحد أسباب تخلفهم عن ركب الحضارات التي سادت حولهم، وبعيداً عنهم، فأنفدتهم من تلك المهن حرمتهم الإبداع والابتكار فصاروا مكثفين بما لديهم من أنعام يملكونها ليغير بعضهم على بعض لأخذ ما يمكن أخذه بقوة السلاح، فجاء الإسلام ليتمم مكارم الأخلاق ويغير الكثير من المفاهيم، ويحرم القتل والاعتداء، ويحفظ الحقوق، وينشر السلام، ويردع الظالمين، ويساوي بين الناس صغيرهم وكبيرهم، غنيهم وفقيرهم، أسودهم وأبيضهم، عربيهم وغير عربيهم. الجزارة، والخرازة، والحدادة، والدباغة، وغيرها مهن كانت تغطي حاجة الناس في فترة من الزمن لا يمكنهم الاستغناء عنها وعن العاملين بها، حتى جاءت الآلة لتحل محل تلك الأيادي الكريمة التي عملت عملاً جليلاً عبر القرون والأزمان، فكانت مساهمتهم مساهمة لا غنى عنها عبر التاريخ.
|
والأندلسيون شأنهم شأن غيرهم من العرب كانوا ينظرون لتلك المهن وممتهنيها بنظرة أقل من غيرها لكن تلك القلة لا يمكن مقارنتها بما كان سائداً في المشرق.
|
لعلنا ننقل شيئاً عن وضع أبي بكر يحيى بن محمد المعروف بالجزار السرقسطي، وهو ابن فلاح فقير متواضع استأجر والده أرضاً وزرعها لكن والده لم ينل من فلاحته سوى الخسارة، مما حدى بابنه الاستنجاد بمسؤول المنطقة لمساعدته في محنته، فقال أشعاراً متهكماً بما نال والده، فقال مخاطباً المسؤول بقصيدة منها:
|
اكتراها ولم يكُنْ مستخيراً |
وقت شؤم بطالع الأدبار |
لم يزل زارعاً بها حِمْلُ بَغْلٍ |
رافعاً منه نصف حِمْل حمار |
والشاعر أبو بكر، كان حاد المزاج، كريم النفس، يتنقل بين الجزارة والشعر طلباً للمال الذي مات وهو لم ينل مراده منه. فوصف حالته تلك قائلاً:
|
كم بالقصابة لا أنفك في سغب |
وفي المدائح عنها للفتى حِوَلُ |
|
وهو يرى أن أصحاب المهن الأخرى مثل الطباخ والدباغ والحداد والفراق والزقاق والرقاق والمواق كلهم عالة على الجزارة فيقول:
|
فمنهم الكرَّاشُ والسلَّاخُ |
إليهم السَّبار والطبَّاخ |
والصنع المألوف والجلَّاد |
ودابغ الجلود والحدَّاد |
إليهم الرواسي والبلاجي |
ثم الفتى المدعو بالسِّراج |
ومنهم الفرَّان والزقاق |
يليهم الرقاق والموَّاق |
ولعله هنا أيضاً يشير إلى أحد خصومه وهو أبي الحسن البرجي المعروف بالفراء، وهو من يعمل في الفراء والنسيج، ولذا فهو يستهزئ بمهنة خصمه مشيراً إلى إبرة الفراء خياطته فيقول:
|
هل رمحك المهموزُ إلا إبرةٌ |
أمنَ الطعين بها من الإدماء |
لو أنها في عين مرمود لما |
بلغت ملاحِظة من الإغضاء |
أبابرة مثل الهبَاة كسيرةٍ |
تسطيع قلع الهضبة الصمّاء؟ |
ولعلني هنا أقف عند نظرة حاجب ووزير حاكم سرقسطة الوزير أبو الفضل ابن حسداي الذي عاب عليه عودته إلى مهنة القصابة، وهي للأسف مهنة كريمة فيها خدمة للمجتمع، فقال الجزار:
|
تعيب عليّ مألوف القصابة |
ومن لم يدر قدرَ الشيء عابهُ |
ولو أحكمت منها بعض فنٍ |
لما استبدلت منها بالحجابة |
أما أنا فلا أتفق مع شاعرنا الكريم يحيى الجزار، فمن نال الوزارة والحجابة لا يمكنه أن يتركها للجزارة. ففي الحجابة المال والجاه وهو ما لا يوجد في الجزارة، لكن ما يعاب على الوزير ابن حسداي أن يعيب تلك المهنة الكريمة على رجل عاد إليها بعد أن فشل في وصوله إلى بلاط الحاكم السرقسطي مع قدرته الشعرية، بسبب حدة مزاجه، وافتقاره إلى النفاق والملق والصبر على مصارعة الفئة لدى الحاكم السرقطي.
|
|