الفقهاء عند التخصيص ورجال الدين عند التعميم -وإن شئت فقل المشايخ إذا أردت التمييز وعلماء الشريعة إذا أردت التقنين- لا يتعدون ثلاثة أصناف في المجمل المختصر والموجز المفيد.
فقليل منهم من هو عالم ملة رباني سواء أكان فقيها أو مُحدثا، ومن مدرسة ابن تيمية وابن عبد الوهاب وابن إبراهيم وابن باز وابن حميد وابن عثيمين تسطع أضواء النبوة يهتدي بها علماء الملة ويسترشدون على نورها طريق الربانيين فلا تزل بهم القدم فتخلط عليهم الطرق. وأعظم ما يميز الفقيه هو الفطنة والذكاء وقوة الاستنباط، وأما الممارسة والخبرة فهي شرط لازم للمحدث. وعلى كلٍّ، فالجامع الذي يجمع هذا الصنف من العلماء الربانيين هو تغليب تعظيم جناب الله على رضا الناس، وكلٌّ يخطئ ويصيب ويؤخذ من قوله ويُرد.
وأما علماء الأمة فهم كُثر عددا وأتباعا. وكيف لا وهم يحرمون على الناس ما يريده الناس أن يكون حراما ولو استحلوه وكان عليهم فيه ضيق وحرج. فبتحريم ما يريد الناس تحريمه -وهو ليس بحرام- ينال فقهاء الأمة بذلك مفهوم الحرص والغيرة على دين الله فيعلوا شأنهم بين العامة والخاصة. ثم تراهم وقد انقلبوا على أعقابهم فيحللون للناس ما يريده الناس أن يكون حلالا ولو كان حراما، فينالوا بذلك لقب علماء العصر وفقهاء الزمان. وجامع هذا الصنف من الفقهاء هو تغليب الاستحسان والسياسة على أدلة الكتاب والسنة وأصول السلف. فلسان حالهم يقول للناس: «ما علمنا لكم من أرباب غيرنا»، فالتحليل والتحريم من خواص الربوبية. ولا يلزم من ذلك كون هؤلاء من خبثاء الطوية بل قد يكونوا من الصالحين، ولكنهم لم يدركوا معنى توحيد الربوبية الذي اختلط عليهم مع معنى العبودية بسبب افتتانهم بكثرة الاتباع.
وأما الصنف الثالث فهم المقلدون لهؤلاء أو هؤلاء. والتقليد هو نوع من أنواع الحفظ، والحفظ وسيلة لتحصيل العلم ولكنه لا يجعل من صاحبه عالما. فلا يدرك العلم من لا يستطيع الفهم، ولا يُؤتى الفهم من أفلس من المنطق.
وعلى كلٍّ، فإدراك العلم مسألة وإظهاره أو العمل به مسألة أخرى. فالجهل في ديننا نوعان: جهل حقيقي بسبب قلة الفهم وإفلاس المنطق وهو جهل المقلدين من المتشيخة، والثاني جهل سياسي تغيب بسببه الاستقلالية في الفهم عن دين الله. والجهل السياسي أو التجاهل لا بد له من غطاء. فأما فقهاء الأمة فغطائهم الاستحسان بعقولهم وتلفيق أقوال الفقهاء من المذاهب على شكل عجيب ولكنه يوافق هوى الناس، سواء تحليلا أو تحريما- فموافقة هوى الناس هو أقوى وسيلة لإقناعهم. وأما العلماء الربانيون فعادة ما يهمهم أمر الدين والاحتياط له والخوف عليه مما ألجأ المتأخرين منهم إلى التورية والتأويل في أحاديثهم وفتاواهم مع الناس على اختلاف طبقاتهم.
ولذا أنا أدعو دائما إلى التفريق بين فتوى العالم الرباني في المسألة وبين تأصيله لها، وخاصة بعد العصور الثلاثة الأولى المفضلة. فعلماء السلف الأولين في زمن تأصيل الشريعة -وهم أعلم بها لقربهم الزمني بعهد النبوة- وضعوا أصول الشريعة وقواعدها ونصوا على علل الأحكام ثم التزموا بذلك. فتجد أئمة السلف لا يحرم أحدهم أمرا احتياطا للدين، بل إن غلب على ظنه الحرمة ولم يجد لها دليلا شرعيا على أصوله، قدر حق الربوبية في التحليل والتحريم فلم يحرم بل قال أكره ذلك أو كرهه فلان.
إن مما يُسكت عنه عندنا قول ابن تيمية: «إنه ليس كل ما اعتقد فقيه معين أنه حرام كان حراما .. إنما الحرام ما ثبت تحريمه بالكتاب أو السنة أو الإجماع أو قياس مرجح لذلك .. وما تنازع فيه العلماء رُد إلى هذه الأصول .. ومن الناس من يكون قد نشأ على مذهب إمام معين أو استفتى فقيها معيناً أو سمع حكاية عن بعض الشيوخ، فيريد أن يحمل الناس كلهم على ذلك، وهذا غلط». انتهى كلامه رحمه الله.
hamzaalsalem@gmail.com