كتب - محمد المنيف :
لا شك أن للمحيط أو المكان تأثيراً على المبدعين في أي من العطاءات الإنسانية شعرا كان أو رواية أو قصة قصيرة أو بأي من سبل التعبير التشكيلي رسما ونحتا وتركيبا، ويبدأ هذا الاختزال مع أول لحظة يعقل فيها الموهوب ما حوله من مظاهر، ويتلقى المؤثرات أصواتا مسموعة كانت أو مشاهد مرئية؛ ليشكل بها إبداعه ويوظف لها أدواته قلما أو ريشة أو فرشاة، ولهذا نرى أن الروايات التي نجحت اعتمد فيها الروائي على تفاصيل المكان كما نجد في القصائد وصفا للجمال وربطه بالجغرافية والمكان والزمان أما الفنانون التشكيليون فهم كغيرهم ممن سبقت الإشارة عنهم بأن لغتهم أكثر مباشرة ووضوحا ووصولا إلى عقل المشاهد خصوصا عندما يكون العمل تسجيليا بمعنى رصد للمكان ذاته كما نشاهد في كثير من أعمال الفنانين العالميين الذين منهم فان جوخ في لوحة المقهى وليونارد دافنشي في لوحة الموناليزا التي استعان بالخلفية من جبال مدينته فنشي التي كان يتمتع بمشاهدتها في طفولته.
هذا التوجه في محل الرصد يحضر أيضا في إبداعات فنانينا فهناك من رسم المصمك أو منازل الرياض القديمة أو أنماط الزخرفة والنقوش في الجدران والأبواب كما نشاهدها في أعمال الفنان علي الرزيزاء أو عبد المحسن أباحسين وأساليب الحياة والعمل الذي يقوم به المجتمع في فترات سابقة كما نجدها في أعمال الفنان سعد العبيد أو في لوحات الفنان إبراهيم الزيكان وفي أعمال الفنان سعود العثمان من الدوادمي عن أزقة عنيزة، كما نشاهد أيضا في أعمال الفنان طه صبان واستلهامه للمساكن في مكة، البعض منهم اعتمد النقل المباشر و البعض مزجها بالخيال وأضاف شيئا من التجديد في الشكل معيدا بناء ما تهدم منه خلال اللوحة، فلا ننسى ما قدمه الفنان الشاب عبد المنعم السليمان من الأحساء من توثيق لبقايا منازل في مزارع الهفوف، ومن المدينة أيضا نجد أعمال الفنان فؤاد مغربل بايقاعاتها اللونية الفسيفسائية وبمضمونها عن أنماط الأبنية وما يبرز فيها من رواشين تشتهر بها المنطقة الغربية. هذه النماذج وغيرها كثير لم تكن إلا نتاج ومضات رسائل وجدانية يتلقاها الفنان من عقله الباطني عند استحضار الفكرة المرتبطة بالموروث وقد يكون كبار التشكيليين سنا أقدر على تكوين اللوحة وإعادة بنائها كما كان يشاهدها قبل زوالها وطمسها واستبدالها بالجديد من مظاهر الحضارة كما أن كبار السن من أفراد المجتمعات هم من يحرص على اقتناء مثل هذه الأعمال؛ لقربها منهم ومن معيشتهم بكل ما فيها من شقاء وصعوبة في طلب الرزق وانتشار أمراض وخوف إلى آخره.. التي أصبحت ذكريات.
هذه الأعمال لم يعد لها حضور في معارضنا الحديثة ولم يعد لها مكان أو مناسبة في عالم متسارع الخطى جذب في موجه المتلاطم كل ما كان حاضرا من تلك الأعمال ولم يتبق لها إلا الصور المطبوعة بالإصدارات الخاصة بالمعارض التي شارك فيها الفنانون بهذه الأعمال. زمن ليلتقط فيه الفنان بقايا المختزل ويضيف لها ثقافته المعاصرة ويسخر لها أدواته الحديثة ويقدمها على طبق غربي وجبة لا زال مجتمعنا يتلمس أبجديات مكونات تلك الأعمال.
هذا هو العصر ولكل زمان مبدعون ومصادر هامة وفكر جديد.
لكن مثل هؤلاء ومثل تلك الأعمال التي يعاد بها التعريف بواقعنا وتراثنا الاجتماعي والمعماري القديم مطلب يجب الاهتمام به بأن يقام لهذه الأعمال وللمبدعين فيها وهم كثيرون في مختلف مناطقنا معارض تتحول إلى متحف سياحي.