اكتمل القرن العشرين وخلف خلفه الكثير من المعجزات والمعاصي والألم والسعادة والنقيض وكل شيء يضاد بعضه فصادف في نهاية هذا القرن وجود فتاة في مقتبل العشرينيات هادئة حالمة، لها أهداف تبحث عن الحب الصريح الواعد والرجل الذي يحتوي أسرار عشقها الأبدي وقلبها الطاهر، حيث تملؤها الآمال والأحلام الألماسية والحنان الأبدي، تسكن في أرض طاهرة خضراء التكوين مثمرة الخيرات، وبيتها قلب من يشقها. في يوم من الأيام كانت تسير في أحد شوارع المدينة مع أحد من أهلها فلمحت نظرة حب من شاب يعتليه الإخلاص والوفاء سلاحه يمشي أمامها فإذا بتصادم النظرات بين هذين القلبين، فصار في قلب كل منهما نداء إلى الحب أن يحضر هذا الحدث. وكان الشاب يعمل في متجر في هذا الشارع فرأت الشابة اسم المتجر الذي كانت تقصده وبقي هذيان قلبها يخفق ويخفق وينصت إلى خطا الحب فرجعت إلى بيتها ودخلت مباشرة إلى غرفتها وبدأت تستمع إلى حديث قلب الفتى، حيث صادفته وتذكر كل لحظة من هذا اللقاء فنبت حب الفتى في قلبها، وأثمرت شجرة الحب بين ضلوعها وأحبته من نظرة طاهرة أحست بها وعلمت أن سلاح الفتى إخلاصه ووفاءه وحبه، وانعكس التفكير على الفتى حتى قررت هذه الشابة تكرار الزيارة إلى ذلك المتجر فقصدته في اليوم التالي ورأت نفس الشاب وتبادلا النظرات وتعالت الأنفاس والإعجاب.
هم الشاب بالحديث إلى تلك الفتاة تعتليه الابتسامة، فسلم عليها بقوله: (صباح الفجر المعطر أهلا بكِ مرة أخرى)، وأضاف بقوله:( إنه لمن دواعي سروري أن أراكِ تشرفين المتجر) فاعترى الفتاة الخجل الأنثوي والاحمرار قد بان على وجنتيها.
فأجابت قائلة: (إنه من لطافتكِ وذوقكِ استقبالي وهذه ثاني مرة أدخل فيها هنا). فقال لها:(تصرفي كما تحبين). وبحجة المشتريات تحدثت الفتاة إلى من لمحت منه الحب واشترت أشياء بسيطة من المتجر وانتهى اليوم بعودتها إلى مأواها، حيث غرفتها فجلست تسمع موسيقى عزف السماء، موسيقى الحب وعشقت حديث الليل، لها أشرق الفجر عليها وهي لم تغفُ لها عين من شهد الحب فنامت حتى صار يومها عصرا.
وانطلقت مرة أخرى إلى المتجر من جديد ولكنها لم تر الفتى فسألت عنه زملاءه فقالوا إنه مريض قليلاً وسيعود غداً، كان هنا ولكن وعكة صحية أصابته. فانقبض قلبها والحزن يداعب أنفاسها وهي تسير حيث بيتها وفجأة! صادفت الفتى كان يمشي وبيده بعض العلاجات البسيطة لهذه الوعكة وإذا بالفتى يلتقط نظراته من قلبها فازداد نشاطاً وأملاً وابتسم ابتسامة منسدلة من شفتيه التي يجملها شاربه القهوائي اللون فتحمدت له السلامة وقالت له: (إني جئتُ إليك ولم يكن لي عمل في المتجر) فأجابها:(إن سر وعكتي لأنكِ لم تأت في صباح هذا اليوم وقد حزنتُ كثيراً). فقالت له: (إن الحب سهم موصول بقوس مطر السماء وبألوانه الطيفية). فصارح قلبها وقال لها: (عشقتكِ وعشقتُ حتى ظلكِ).
واستمرت العلاقة بينهما حتى أشرق القمر عليهما أربعاً وعشرين إشراقة، أي سنتين من الحب واللقاء والاتصال الذي يسلب العقل في آناء الليل، وكلما أشرق فجر آخر ازداد حبهما معاً أكثر، وإذا بيوم من الأيام حدث ما لم يكن مرتقباً! مرَّ يوم كامل لا اتصال ولا همس ولا لقاء فتعجبت الفتاة! ما سر هذا الغياب؟! تتصل وتسأل هل من مجيب؟ فلا جواب على اتصالها الهاتفي! تقصد مكان عمل حبيبها فلا وجود له! تسأل عنه فهل من ينشدني عن حبيبي؟ صمت وضباب ورذاذ مطر جنّ الليل فلا أمسية ولا صوت حبيبها عاودت الاتصال.. الخط مغلق..!
عجباً لم تنم تلك الفتاة التي عشقت فتى أحلامها وعذب كلماته. بقيت تنتظر وقت بدء عمله فذهبت تركض على أحر من الجمر فدخلت المتجر وسألت صاحب المتجر عن عشيقها وحبها الليلي ولذة الفجر في أنغام صوته فأجابها: (لقد استقال من عمله أمس ولا علم لدي عن أخباره أو مكان سكناه لأنه انتقل من مسكنه القديم). فذابت الفتاة في حزن سنينها وتوغل الحزن قلبها وازدادت شهقات موتها وبدأت تنزل دمعاتها واقشعر بدنها لأنها لم تعرف عن أمل حبها أين اختفى فرجعت إلى منزلها بين الحيرة والوهم والتصديق بما جرى وتهامس نفسها وتقول: (إني أحلم، إنه كابوس إنه حلم.. ليس لغياب حبيبي وجود سأنام حتى يعود) نامت العاشقة لفتاها فحلمت به وهو يطرق بابها ويؤنس حزنها ويمسح دمعاتها وهي تبتسم أثناء نومها وفجأة استفاقت من حلمها وهاتفها على صدرها فعاودت الاتصال وكل ظنها أنها كانت تحلم بكابوس فراق حبيبها، ونفس الشيء الهاتف مغلق. وحل اليوم الثاني وذهبت إلى مكان عمله ولم تجد إلا نفس الجواب لا علم لأحد به وأين اختفى! وبعد مضي شهر من غياب حبيبها وهي مريضة في أشد محنتها جاءتها رسالة من رقم حبيبها نفسه يقول لها (يا من كنتِ حبيبتي الآن يعتذر حبي لكِ عشقتكِ نعم لكني وجدتُ من أبحث عنها وأعتذر لأني أشغلت بالكِ وفكركِ، اعذري هجراني لكِ). فسكرت الفتاة بدموعها وصعدت أنفاسها وتصاعد صوت بكائها وانصدع قلبها الطاهر الحنون وصرخت روحها بنداء الهجران وبدأت تعاتب العاشقين.. لماذا وأنا وهبته روحي وكل أنفاسي وعطائي؟! وهبته حبي وإخلاصي؟! هل هذا جزائي؟! وبقيت تعاني وتعاني والدمع صار في محجرها مثل السيوف والحجر الذي يجرح وجنتيها وبقت عليلة بذكرى ماضي عشقها الأول والذي ختمت قلبها فيه وإذا به يخذلها ويستبدلها بغيرها! ذابت تلك الأنثى من شدة حزنها وبقيت حزينة ولا تعرف من تشكو له همها ولا تغفو عين لها من شدة بكائها وحزنها وارتكانها في غرفتها، تبعثرت كل أفكارها وتلاشت كل آمالها فمسكت قلمها وقررت أن تخاطب الأوراق وتكتب من دون أن تنظر ما تكتب يداها من الحزن والألم والفراق ولوعة الهجران، لم تتصور يوماً أن من عشقته سيهجرها ويبتعد عنها! وبقيت تسامر القرطاس والقلم وقلبها الدامي المتصدع المنثلم لاسم عشيقها وتناديه بين فترة وأخرى كلما اشتد رباط الذكريات في مخيلتها.
- الرياض