الرياض - خاص بـ»الجزيرة»
يقول الله سبحانه وتعالى: (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) (29) سورة النساء، وفي الحديث النبوي :(لا يتمنين أحدكم الموت لضر أصابه)، آية قرآنية كريمة، وحديث نبوي شريف، وغيرهما كثير من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية التي تحرم قتل النفس، أو قتل الإنسان لنفسه لأي سبب من الأسباب.. وقد شهدت السنوات القليلة الماضية بروز ظاهرة الانتحار في عدد من الدول الإسلامية، وخصوصاً في أوساط الشباب من البنين والبنات، ظناً من المقدم على هذا العمل المحرم بأنه سيخلص نفسه من كل آلامها، وما علم أن الله سبحانه وتعالى سيحاسبه على هذا السلوك المحرم.
وإن المتتبع لما تنشره وسائل الإعلام في الفترة الأخيرة ليلحظ أن هناك أخباراً عن حالات انتحار في المجتمع السعودي، الأمر الذي يدعونا إلى التساؤل: لماذا يلجأ الإنسان إلى قتل نفسه؟ وما الأسباب التي تدفعه إلى الإقدام على هذا العمل الذي حرمه الله في كتابه الكريم، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟ وكيف نتصدى لهذا العمل؟ وما دور العلماء والدعاة ومؤسسات المجتمع المختلفة في علاج مثل هذه الظاهرة التي تنافي تعاليم الدين الإسلامي الحنيف، وأحكامه؟
يشير د. إبراهيم بن صالح الخضيري - القاضي بمحكمة التمييز بالرياض، إلى أن ظاهرة الانتحار في العالم منتشرة، وهي في المملكة لا تشكل ظاهرة، وهي موجودة بحكم أن المملكة يقطنها عدد كبير من الأجانب، ولجوء هؤلاء إلى الانتحار، وخاصة المترفين منهم، مرده إلى انعدام الإيمان بالقضاء والقدر، ولو كان الإيمان بقضاء الله وقدره موجوداً لما أقدموا على هذا الجرم، ولما يأسوا من رحمة الله، ولم يقنطوا من روح الله عزَّ وجلَّ، ولم ييأسوا من روحه، ولم يقنطوا من رحمته، لو كان الإيمان بالقضاء والقدر موجوداً لعلموا أن القدر سر الله في خلقه، ولرضوا بما قسم الله وقدر، ولاقتربوا من ربهم بالتوبة والأعمال الصالحة، لكن لما بعدوا عن الإيمان بالقضاء والقدر، وشعروا بالإحباط بما حواليهم، ولم تتحقق أمانيهم، وظنوا أن في قتلهم لأنفسهم راحة، وهذا مما يسوله الشيطان ويزرعه في قلوب اتباعه، ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(من قتل نفسه بحديدة جاء يوم القيامة وحديدته في يده يعذب بها)، ونهى صلى الله عليه وسلم عن قتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، فكيف بالإنسان نفسه، وقال جل وعلا : (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا)، وقال عزَّ وجلَّ: (وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ)، وقال - عليه الصلاة والسلام -: (لا يتمنين أحدكم الموت بضر نزل به)، وأخبر - عليه الصلاة والسلام - أن الإنسان له من طول عمره خيراً، فهو يزداد به عملاً صالحاً، فهذا كله يدل على أن الانتحار مرده ضعف الإيمان، وانعدام الإيمان بالقضاء والقدر، وغيابه في زحمة الانتحار، والمنتحر يعارض القضاء والقدر، ويقابل الله - جلَّ وعلا - بكبيرة من كبائر الذنوب، وغالباً ما تكون حالات الانتحار حالات مقيتة يستولي فيها الشيطان على الإنسان، فتكون خاتمته سيئة والعياذ بالله لهذا تكافح هذه الظاهرة في العالم الإسلامي بزرع الإيمان بالقضاء والقدر، وغرس الوعي الديني في قلوب الناس، وإيجاد فرص عمل، وإشغال الناس بالأعمال التي تعود عليهم بالمنفعة، وإبعاد الناس عن طرق الغواية والشيطان لتنويرهم دينياً وتوجيههم إلى الصراط المستقيم، وسلوك مدارج الصالحين بين إياك نعبد وإياك نستعين، واستعانتهم بالله عزَّ وجلَّ، والعلماء يقومون بدور يشكرون عليه، ويأجرون مع الإخلاص لله سبحانه وتعالى، ولكنه دور ضعيف، ونحن نطالب أنفسنا والمتعلمين في العالم الإسلامي كله أن يقوموا بدورهم، وكذا أطباء العالم الإسلامي النفسيين والأخصائيين في مجالاتهم ينبغي أن يقوموا بدورهم في تنبيه الناس على خطورة الانتحار وضرره، كما أن وسائل الإعلام مسؤولة أمام المجتمعات في تقديم رسالة تقي الناس من شرور وآفات الانتحار، وينبغي للمسلم أن يكون حريصاً على طاعة الله عزَّ وجلَّ.
فقدان الإيمان
ويوضح د. ناصر بن عبدالكريم العقل - الأستاذ بكلية أصول الدين بالرياض، أن الله كرّم بني آدم، وجعل للنفس الإنسانية قدراً كبيراً وقيمة عظيمة، وجعل حفظها من الضرورات الخمس، لذا فقد حرّم الله وحرّم رسوله صلى الله عليه وسلم (الانتحار)، وهو أن يقتل الإنسان نفسه، أو يزهق روحه، وفي الآونة الأخيرة انتشرت ظاهرة الانتحار في العالم كله، وبدأت تظهر في مجتمعنا السعودي بشكل ملفت للنظر.
وللانتحار أسباب كثيرة مرجعها في تقديري إلى أمرين رئيسين: الأول: الخواء الروحي أي فقدان الإيمان أو ضعفه، وهذا من دابر الأمم الذي وفد علينا مع الغزو الشامل، والثاني: الطغيان المادي، أي الانهماك في الدنيا وملذاتها وبهارجها الخادعة.. ومظاهر السبب الأول كثيرة منها: ضعف العقيدة في الله تعالى، أو انحرافها، فالعقيدة السليمة تملأ القلب محبة لله تعالى، وخوفاً ورجاء ويقيناً، فيقوى القلب ويحتمل مشاق الحياة ومشكلاتها: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ)، أي يكفيه ما يهمه، ومنها: الإعراض عن ذكر الله وشكره، فذكر الله تعالى يتمثل بأداء العبادات على وجهها الصحيح كالصلاة، والصيام، والتلاوة للقرآن، والتسبيح والتهليل والدعاء، فإن هذه الوسائل الشرعية تقوى بها القلوب، وتطمئن بها النفوس، فلا يتطرق إليها اليأس والقلق، قال تعالى: (أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)، وقال تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا)، وذكر الله شامل للعقيدة والشريعة، فكلما ازداد الإنسان قرباً من الله في كل شؤون حياته واستمسك بدينه، شعر بالرضا والطمأنينة، وقوي قلبه، وارتقت نفسه إلى تحمل مصاعب الحياة، ولأدائها مهما عظمت، وكلما بعد عن الله وأعرض عن شرعه وعن شكره وذكره، هجمت عليه الهموم والغموم والقلق والاكتئاب، إلى أن يستفرد به الشيطان فيوقعه بمرحلة اليأس، فيسأم من الحياة، ويسعى لمفارقتها بالانتحار ظناً منه أن يتخلص بذلك مما يواجهه، في حين العكس هو الصحيح فإن عذاب الله أشد وأنكى لأن الله حرم قتل النفس.
مظاهر الخلل
ويشير د. العقل إلى أبرز مظاهر الخلل في مجتمعنا السعودي الذي به كثرت حالات الانتحار، فمن ذلك التأثير بمظاهر المدنية الغربية والتشبه بالكفار في الأفكار والثقافات وأنماط الحياة، والغربيون مفاليس لا يرجون الله وقاراً، ولا يعرفون الإيمان الحق، والدين والعقيدة السليمة التي تسعد بها النفس البشرية، فالقوم غايتهم الحياة الدنيا فحسب، ولا يرجون الآخرة، ومن ذلك الفراغ والجدة (الغنى) والترف وتوفر وسائله، وترتب على ذلك الانهماك في الدنيا وشهواتها وملذاتها، وتعلق القلوب والنفوس بها دون ضوابط شرعية، مما ترتب عليه الإخلال بجانب الإيمان والعبادة، وهذا يتضح جلياً بمظاهر أصبحت كوارث على المجتمع السعودي، مثل الإسراف في المأكل والمشارب والرفاهية إلى حد التهور ودون أي مراعاة لما يحفظ القلب والجسد، ولا أصول التغذية ما انتشرت الأمراض المزمنة بشكل مروع كالسكر والضغط والكلسترول، وهذه ونحوها من بواعث القلق والاكتئاب، وكذلك السهر والانهماك في تلقي الثقافات والأفكار الوافدة عبر وسائل الإعلام والفضائيات والشبكة العنكبوتية.
والعلاج يكمن في التمسك بشرع الله، والتفقه في دين الله الذي يأمر بالاعتدال، وينهى عن الإسراف (وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ)، وغرس العقيدة السليمة في عقول الأجيال، وتوعية المجتمع بالواجب تجاه النعم التي هيأها الله لنا في هذه البلاد، وبيان خطورة الإسراف، والانهماك في الدنيا هو كفر بنعمة الله تعالى، كما قال تعالى: (لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)، ومن عقوبات الله العاجلة على المسرفين الذين لا يعلقون قلوبهم بالله، ولا يتمسكون بدين الله، ولا يذكرون الله ويشكرونه، هذه الأمراض النفسية التي انتشرت اليوم، والتي قد تؤدي إلى إزهاق النفس واليأس من رحمة الله بالانتحار.. نسأل الله العافية، فيجب على الجميع: مؤسسات الدولة، والمجتمع، والأسرة، والآباء، ورجال الفكر، والدعاة، والعلماء، والمربون، أن يتداركوا الأمر بكل الوسائل المشروعة ابتداء بالوعظ والإرشاد، وتبصير الناس بدينهم، وما يعين على ذلك، ثم بتكثيف برامج التوعية الشرعية والصحية والنفسية، ولاسيما في وسائل الإعلام، والمدارس، والجامعات، والمنتديات، وأن يتصدى لذلك المختصون عبر البحوث والدراسات والحوارات، فالواجب على الجميع التعاون على البر والتقوى.