عندما يحين موسم القطاف وعلى وجه الخصوص قطف التمور الناضجة من النخيل الذي يطلق عليه المزارعون ب(خرف النخيل) وهو اجتناه بعد أن يطيب، يسارع المزارع بكل ما أوتي لتذليل الصعاب، وتهيئة السبل في سبيل إنتاج ثمر مميز ينافس الإنتاج المطروح في السوق، وليحوز على رضا المستهلك. ولتميز منطقة القصيم بإنتاجها للتمور بأنواعها الفاخرة فإن المزارعين يعدون موسم قطف التمور موسماً ذهبياً تتحرك من خلاله بورصة التمور دافعةً عجلة التجارة في المنطقة. حيث يتم تصنيف التمور إلى أقسام متعددة. كالرطب، والبلح، وما يكنز ويحفظ بأكياس ويصنف بدرجات متفاوتة حسب الجودة، والمذاق فتصنيف الدرجة الأولى مثلاً للحجم الأكبر، والحجم الأقل بالدرجة الثانية وهكذا. فيتم تجهيزها بداخل علب، وصناديق تناسب جميع الأذواق، والاختيارات، فالمتسوق لا يجد عناء في الاختيار لتوفرها جاهزة في علب مصنوعة لهذا الغرض. وغالب من يشتري تلك العلب ممن هو خارج المنطقة، وداخل المنطقة أحياناً. وعندما يحتاج بعض أهالي المنطقة إلى ثمر النخيل لمنازلهم فإنهم يفضلون أن يقوموا بقطف الثمار بأنفسهم لما يجدونه من متعة، ولذة في ذلك، وللعشرة الطويلة مع النخلة فهي الصديقة الوفية لهم. وممن اشتغل بالنخل وصرف جهده بالاهتمام بها، والدي أبو عبدالله إبراهيم بن محمد الغضية- رحمه الله-، حيث إنه كان يشتري مجموعة من ثمر النخيل كتمر السكري والشقراء والكويري وغيرها من الأنواع، وينتقي أفضلها من حيث موقعها وعذوبة مياهها لاختلاف جودة التربة، والماء من موقع لآخر، حيث إن التربة لها دور كبير في طعم الثمرة وجودتها. وتميز المنطقة بأنواع التمور لا يعني تساوي المواقع بعضها بعضا، حيث إن شرقها يختلف بالطعم والجودة عن غربها وكذا شمالها عن جنوبها. وأبو عبدالله كان مُلما بنوعيات أراضي المنطقة، بل إنه يخصص كل جهة لنوع من انواع التمور فالسكري مثلاً يكون جودته أعلى ومذاقه أحلى إذا كان من جهة الغرب بخلاف الشقراء جودتها أعلى إذا كانت من جهة الشرق وهذا على سبيل المثال. وهكذا بقية مواقع جهات المنطقة. وهذا الاختيار يخضع لعدة معايير يختارها أبو عبدالله والمزارعون بعناية. ولضمان جودة ونجاح عملية القطف كان يستعين والدي بالله ثم بأولاده في الإشراف والمتابعة لأعمال القطف والتقاط التمر مما أكسبهم خبرة في مجال التمور حتى انه يُحتم عليهم ضرورة القيام بأنفسهم بالقطف والتغليف لِمَا ينتج عنه من إتقان، وجودة.
ولإيمان أبي عبدالله بجدارة وقدرة الشاب السعودي على تحمل المشاق، والجدية في العمل. أوكل لهم مهام جني الثمار وإن كان بعضهم صغار السن إلا أنه يمنحهم الثقة ويدفعهم للعمل. وهذا الهاجس لدى غالبية أولياء الأمور في تدريبهم على تحمل المسؤولية، والاعتماد على النفس، بخلاف العمالة الوافدة التي ربما تُخل بالعمل وتقصر به. وكان لوالدي تجربة في مشاريع النخيل واستثمارها في التسويق وسد احتياج السوق، حيث إنه يشتري مشاريع تضم عدداً من النخيل تفوق المئات أحياناً مستعينا في ذلك بخبرته الطويلة مع النخيل ثم يقوم بتأمين كميات التمور وطرحها في الأسواق بعد فرزها وتصنيفها كالمعتاد. وباعتقادي أنه يحتسب له سابقة استثمار مشاريع النخيل من حيث التنظيم في قطف وتغليف الثمار بالطرق الحديثة، وذلك قبل سنوات عديدة ومن يعرف أبا عبدالله عن قرب يذكر ذلك جيداً. وكان لا يطمئن حتى يشرف بنفسه على تأمين وإعداد تلك الكميات من التمور. ويقدم مصلحة المواطنين والمقيمين من المستهلكين فوق كل شيء وعلى جميع الاعتبارات فهو يحدد أسعار التمور بمبالغ معقولة وبأسعار متداولة ومقدور عليها وبعيداً عن الجشع والطمع ويرفض الاستغلال جملة وتفصيلاً. وكثيراً ما يردد مقولته (الكسبان الحقيقي هو الشخص الذي يأتيه مكسب بسيط فيسارع إلى بيعه) ا.هـ، متمثلاً في ذلك حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- حيث إنه قال (رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى) وهنا دعوة إلى جميع رجال الأعمال وأصحاب رؤوس الأموال إلى أن يتقوا الله ويرفقوا بالمستهلكين من أصحاب الدخل المحدود وغير القادرين على الأسعار المرتفعة. وإنا كنا بصدد الحديث عن مواسم التمور ومهرجاناتها فإنه يحسن التنبه لبعض الوقفات المهمة:
1- قد يعتري الشاب ضعف في أحد جوانبه الشخصية أحياناً بسبب ما يواجهه من صعوبات الحياة. فبات من الضروري إيجاد فرص للشاب السعودي من حوافز تشجيعية لاستغلال المواسم الاقتصادية كموسم التمور والقوة الشرائية فيه. كأن يخصص لهم فرص عمل في الإشراف مثلاً على مشاريع الإنتاج، ويكلف رجال الأعمال برعاية وتشجيع الشباب لأن لديهم من الأرباح ما يغطي تكاليف الرواتب والمعاشات. ومواسم التمور كفيلة بتوفير فرص كثيرة لانخراط الشباب في العمل.
2- التوجه إلى منح المزارع الداعم لبرامج السعودة مزيداً من التسهيلات، وتقديمه على غيره في الخدمات والمزايا وتوصية الجهات والمؤسسات الحكومية، وغير الحكومية بالتعاون معه تكريماً وتشجيعاً له.
3- المنطقة بحمد الله تمتلك مخزوناً كبيراً من الثروات الغذائية من النخيل وتمورها المتنوعة والشاب السعودي مدرك لوجود هذه الكمية من الثروة الهائلة ولديه من الدافعية والطموح لاستثمار وتطوير هذا الناتج المحلي. لكن المادة وقلة الدعم تقفان عائقين أمام تحقيق هذا الطموح. وإذا أتحنا الفرصة للشاب فإنه سيكتشف ذاته فيتعرف إلى إمكاناته وبالتالي تمنحه الإصرار في العمل فيزداد إنتاجه فتنتفع منه بلاده، وينتفع هو من خيرات بلاده. وبتقديري أنه يتحتم، بل يجب وجوباً على صناديق الدعم، وبنوك التسليف والبنوك المحلية دعم هؤلاء الشباب الراغبين في العمل وإعداد برامج تأهيلية وعقد دورات وندوات لرفع كفاءتهم وتطوير قدراتهم.
4- التواجد الكثيف من المراقبين والمشرفين في مهرجان التمور يوحي بالجدية والانضباطية في متابعة سير الفعاليات لكنني هنا أطالب بمحاسبة المتسببين في رفع الأسعار ووضع سقف لهم لا يمكن تجاوزه في تحديد الأسعار حسب الصنف والجودة لنقضي على جشع الغلاء.
5- شهادة شكر وتقدير وعرفان أقدمها لكل المخلصين من المشرفين والقائمين على مهرجان بريدة للتمور، وأخص بالشكر الرجل الأول في القصيم صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن بندر بن عبدالعزيز آل سعود أمير منطقة القصيم لما يوليه من رعاية واهتمام وتسخيره لكل الإمكانات لخدمة التمور حتى أصبح مهرجان التمور تظاهرة غذائية عالمية شامخاً بحسن الترتيب وجمال التنظيم راسماً لوحة حضارية تستقطب الزوار من كل مكان. والشكر موصول لكل المنضمين لمهرجانات التمور في محافظات المنطقة.
6- دعوة حب أوجهها لمحبي وعشاق التمور أدعوهم لزيارة مهرجان بريدة العالمي للتمور لمشاهدة النقلة الحضارية في العرض والتسويق والحصول على الأنواع الكبيرة من التمور الفاخرة والاستمتاع بالخدمات المقدمة للزوار.
7- رسالة ود ورجاء لأبناء هذا الجيل أن يعطوا النخلة عنايتهم واهتمامهم، فقد قلل بعضهم من قيمة النخلة ناسين أو متناسين أهميتها ووجودها فهي رمز للنماء وعلامة فارقة لهذه المنطقة الغالية. وقد عرف الوفاء من أبناء هذا البلد المعطاء فلنرد الوفاء للنخلة ولنعطها حق البقاء.
غفر الله لكم ولأبي عبدالله وأسكنه الجنة ورزقنا إخلاصه وجده وحسن تدبره.. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الرياض