من المألوف أن يناقش زوجان إمكان زيادة دخلهما، ولكن أن تدور محادثة في هذا الشأن في حوالي القرن الثامن قبل الميلاد، فهذا أمر يثير بوجه خاص، كما يقول أمارتيا سن في كتابه (التنمية حرية)، قدراً من الاهتمام، وإنها لمحادثة غريبة روتها نصوص سنسكريتية.
والقصة أن امرأة تُدعى ميتريبي وزوجها ياجنا فاليكا انتقلا في محادثتهما سريعاً إلى مسألة أكبر من مجرد وسائل المرء لكي يصبح ثرياً: إلى أي مدى يمكن للثروة أن تساعدهما في الحصول على ما يريدانه.
وتساءلت ميتريبي في دهشة عمَّا إذا كانت الغاية تتحقق حين تمتلك أقطار كوكب الأرض وكل الثروات؟! هل تستطيع بذلك أن تحصل على الخلود؟ أجاب الزوج: لا، فإن حياتك هناك شأن حياة الأثرياء، وقالت الزوجة: إذن لا أمل في الخلود بفضل الثراء. إذن ماذا علي أن أفعل بهذا الذي لا يمنحني الخلود؟!
يقول أمارتيا سن - الحائز - على جائزة نوبل للعلوم الاقتصادية عام 1998م - روت الفلسفة الدينية الهندية سؤال ميتريبي البليغ مرات ومرات لتوضيح طبيعة المأزق البشري وحدود العالم المادي.
وثمة جانب آخر لهذا التبادل يحظى باهتمام خاص ومباشر في نظر الاقتصاد ولفهم طبيعة التنمية ويتعلّق هذا الجانب بالعلاقة بين الدخول والإنجازات، بين السلع والقدرات، بين ثروتنا الاقتصادية وقدرتنا على أن نحيا كما نشاء أن تكون الحياة.
ومع إقرارنا بوجود رابطة بين الوفرة والإنجازات فإن الرابطة يمكن ولا يمكن أن تكون قوية جداً، وأن تكون متوقفة على ملابسات أخرى.
ليست المسألة القدرة على الحياة إلى الأبد، كما شاءت الزوجة أن تحدد بؤرة اهتمامها، بل القدرة على الحياة حياة طويلة حقيقية، دون حرمان من زهرة العمر، وتوفر حياة طيِّبة جيدة ما دام المرء على قيد الحياة، بدلاً من حياة البؤس وافتقاد الحرية.
هذه أمور ننظر إليها جميعاً بعين التقدير كقيمة وأمل ننشده، وإن الهوة بين المنظورين أي بين التركيز فقط على الثروة الاقتصادية والاهتمام الواسع النطاق بالحياة التي يمكن أن نعيشها ونسعى إليها، تمثِّل مسألة رئيسية تبدأ منذ كتاب أرسطو (أخلاق نيقوماخوس)، التي نجد فيها صدى لحوار الزوجين الهنديين الذي جرى على بعد ثلاثة آلاف ميل، إذ نقرأ (الثروة كما هو واضح ليست الخير الذي ننشده، ذلك لأنها مجرد أداة نافعة للحصول على شيء آخر).
وإذا كانت لدينا أسباب لالتماس المزيد من الثروة، فإن علينا أن نسأل: ما هي بالتحديد هذه الأسباب، كيف تحقق الهدف، وما الشروط التي ترتهن بها، وما الأشياء التي نستطيع أن نؤديها بهذا المزيد من الثروة؟!.. والحقيقة أن لدينا جميعاً بوجه عام، أسباباً ممتازة لطلب المزيد من الدخل والثروة. وليس السبب هو أن الدخل والثروة مرغوبان لذاتهما، بل بالتحديد لأنهما وسيلتان هادفتان جديرتان بالإعجاب، من أجل تحقيق المزيد من الحرية، لكي نبني نوع الحياة الذي نبرره عقلانياً لما له من قيمة.
وتكمن فائدة الثروة في الأمور التي تهيئ لنا الثروة إمكان إنجازها. أي ما تساعدنا الحريات الموضوعية على إنجازه بيد أن هذه العلاقة ليست حصرية، حيث توجد مؤثّرات أخرى غير الثروة تؤثِّر في حياتنا، ولا هي مطردة، حيث إن أثر الثروة في حياتنا يتباين بتباين المؤثِّرات.
لذلك من المهم الإقرار بالدور الحاسم للثروة في تحديد ظروف المعيشة ونوع الحياة. مثلما أن من المهم أيضاً فهم الطبيعة المشروطة والمحددة لهذه العلاقة. لذلك فإن المفهوم الملائم للتنمية ينبغي أن يتجاوز كثيراً حدود تراكم الثروة وزيادة مجمل الناتج الوطني والمتغيِّرات الأخرى ذات العلاقة بالدخل. إننا ينبغي أن ننظر إلى ما هو أبعد من النمو الاقتصادي، ولكن دون إغفال لأهميته.
ختاماً أقول تستلزم وسائل وغايات التنمية دراسة فاحصة وصولاً إلى فهم كامل لعملية النمو والتطوير، إذ لا يكفي أن نقنع بأن يكون هدفنا الأساس أقصى قدر من الدخل والثروة، كذلك وللسبب نفسه، لا يمكن أن نعالج النمو الاقتصادي معالجة معقولة باعتباره غاية في ذاته، وإنما يلزم أن تكون التنمية معنية أكثر بتعزيز الحياة.
(*) عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية