الخطابة فن جميل، من أهم مقوماته البلاغة والذكاء، لكن حتى أخطب الناس يتملكه العي أحيانا ويضطرب، فلا يبقى له من خشية خلاص السرعة شيء من بديهته، وهو ما يسمى بحبس التخلص. أحد الشعراء الأمويين ويدعى ثابت بن قطنة ولي خراسان، صعد المنبر يوم الجمعة ورام الكلام، فتعذر عليه فقال: أنتم إلى أمير فعال أحوج منكم إلى أمير قوال، ونزل فلم يلحظ أحد شيئاً.
التظاهر بالعي اعتمده الحجاج بن يوسف حيلة عند وصوله والياً على الكوفة، فصعد المنبر متلثماً، وجلس لا يفوه بكلمة، واضعاً إبهامه على فيه، فاستصغر الحاضرون شأنه ولاموا من أرسله، واعتبروه غلاماً عيياً لا يستطيع أن ينطق حتى نزع لثامه وألقى فيهم خطبته الشهيرة بعد أبيات قليلة عرّف بها بنفسه، فأوقع في قلوبهم الهلع حتى مماته.
اشتهر كثيرون قديماً بالخطابة، منهم قس بن ساعدة الأيادي والإمام علي وزياد ابن أبيه الذي قيل لخطبته الأولى البتراء لوقوعها كحد السيف على الناس. وقد اقتصرت الخطب في العصور الأولى على السياسة والحرب والإرشاد، لكنها مع تطور نظم الحياة وتقاليدها تعدت هذا الحيز إلى المناسبات الاجتماعية فغلب عليها تكلف السجع إلا نادراً.
ومن طرائف المرويات في هذا أن أيوب بن القؤية دُعِي إلى الكلام في مجلس فاحتبس عليه القول؛ فاكتفى بإلقاء هذه الجملة: «قد طال السمر وسقط القمر واشتد المطر فماذا يُنتظر؟»، فأجابه فتى من عبد القيس، والفتيان يهوون الإحراج: «قد طال الأرق وسقط الشفق وكثر اللثق (الندى) فلينطلق من نطق».هذه الطرفة تدخل في باب الارتباك والتشابه؛ حيث تعدى بعضهم على هذه الموهبة ووصفها بسفسطة كلامية لا معنى لها مثل سماع الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أحدهم يقول: طلع سهيل وبرد الليل (ويقصد نجم سهيل)، فكره ذلك وقال: إن سهيلاً لم يأتِ بحرٍّ ولا ببرد قط.
يبقى أن أكثر الخطب وقعاً في النفوس تلك التي تجمع الإيجاز مع البلاغة وتُبقي الحضور متيقظاً متنبهاً لمتابعتها، فلا تبعث على الملل أو تصبح مناسبة للاستغراق في النوم كما يحصل في أيامنا هذه.