أصبحت الطائفية واقعاً عربياً مريراً، فقد تشرذم المجتمع العربي إلى فئات وأجزاء تطوف بصورة عشوائية بعيداً عن المركز، ولكن تؤمن مصالحها الداخلية من خلال علاقاتها مع الخارج، وقد تعلمنا من التاريخ أن الانقسام والتنافس السياسي المبني على أيديولوجيات متضادة بوابة مفتوحة للقوى الخارجية، وصيداً سهلاً لتمرير مصالحها وأطماعها السياسية، والطائفية في العالم الإسلامي والعربي لم تكن اختراعاً عربياً، بل تطوراً طبيعياِ في تاريخ الأديان الذي عادة ما يبدأ موحداً ثم ينقسم على نفسه تباعاً.
في صدر الإسلام، دخل العرب البلاد المجاورة منتصرين، وقد سهل الانقسام داخل المجتمعات المجاورة من انتصارهم، فقد مزقت الصراعات الدينية المسيحية بعد أن دخلوا في جدل لا ينتهي في الماورائيات، فقد تفرقوا على الخلاف حول طبيعة المسيح، وانتصر العرب المسلمون للذين يؤمنون بالطبيعة الواحدة البشرية للمسيح عليه السلام..
بعد عدة قرون أصاب المسلمين ما أصاب المسيحية، فقد تمزقوا فرقاً وطوائف بسبب صراعاتهم السياسية المبنية على الخلافات الدينية، وكان أساس الخلاف استخدام النص الديني لتولي السلطة، فرفع القرشيون نص الإمامة في قريش، وطالب أهل البيت بالإمامة أيضاً حسب سلطة النص الذي يحصر السلطة فيهم، وخطف بنو عباس السلطة من آل علي أيضاً حسب نص «لا وصية لوارث»، واستغل العبيديون فلسفة انتقال روح إمام أهل بيت النبي الهاشمي إلى أجساد غيرهم ليبنوا تاريخاً يقوم على عقيدة دينية جديدة، ليكتمل مثلث أضلاع الانقسام الإسلامي، وليبدأ تاريخ جديد كان من أهم فصوله العلاقة مع الخارج ضد الداخل.
في العصر الحديث يواجه العالم العربي والإسلامي فتنة الانقسام والتشرذم بسبب الطائفية، والتي أصبحت أقوى من علاقات المواطنة والقبيلة والعرق، ومن خلال أبوابها الخلفية دخل المستعمر وصال وجال في المنطقة، ولم يكتف بإضعاف الدولة في المنطقة بل أصبح يخطط لمزيد من الانقسام، وسيكتمل حلم المحتل إذا تم تقسيم الدول العربية والإسلامية إلى دويلات طائفية، وفي ذلك تعزيز لشرعية الدولة اليهودية في فلسطين. وصلت الكراهية بين أتباع الطوائف داخل بعض المجتمعات العربية إلى درجة عالية، فالعلاقة بين أهل السنة والشيعة تمر في مرحلة حرجة، كذلك هو الحال بين الطوائف الأخرى في لبنان والعراق، فالنجاح الغربي في العراق وصل إلى مبتغاه بعد التأسيس لنظام سياسي مبني على الطائفية، وقد كانت التجربة اللبنانية النموذج الذي تسعى خلفه القوى العظمى، وقد يغري المحتل الأمريكي نجاحه في العراق لتعميم الدويلات الطائفية في بقية البلاد العربية، ويساعد في ذلك ظهور الدولة الدينية في إيران، والتي يتم استخدامها لتعزيز الحروب الطائفية في المنطقة، فثقافة فرق تسد ثم حكم المنطقة من خلال سفير فوق العادة بدأ تطبيقها في العراق ولبنان والضفة الغربية، وإذا لم نعد قراءة الوضع السياسي العربي سيكون القادم أسوأ.
لكن السؤال عما هي أفضل السبل لإيقاف تدفق مشاعر البغضاء بين الطوائف وتصعيد الخطابات العدائية بين رموز الفرق الدينية بمختلف مشاربها؟ وهل في الممكن أن تتوقف تلك الحروب وأن يتم بناء الثقة داخل المجتمعات العربية على أسس حديثة! وأن نصل إلى عصر المواطنة المبنية على الحقوق المدنية التي تجرم العمل السياسي من خلال المصالح الفئوية، وبالتالي يتوقف الخطاب من خلال الزاوية الطائفية، لكن من خلال قراءة ما يجري في العراق ولبنان يبدو أن أزمة العقل الطائفي ستستمر في ظل الوهن العربي الراهن، وسيكون لها ضحايا جدد في المستقبل القريب إذا لم تتحسن صيغ الخطاب الطائفي في الوقت الحاضر.