فضّلت أن أتأخر في التعليق على الأمر الملكي الكريم الذي حمل من المضامين ما يمكن الاطمئنان لها لضبط الفتوى والقضاء على ظاهرة من يفتون في كلِّ شيء دون علم أو دراية، وذلك حتى أتعرّف على ردود الفعل ومستوى التفاعل مع هذا القرار المهم سواء بما نُشر وعُرض وقُرئ عبر وسائل الإعلام، أو من خلال من جمعتني بهم المناسبات من المواطنين الغيورين على دينهم وأمن وطنهم.
وكم كان فرحي حين رأيت الإجماع ومن كلِّ شرائح المجتمع في تأييدهم لهذا التوجُّه الجميل في ضبط الفتوى وحصرها بأعضاء هيئة كبار العلماء، والتعامل بحزم وقوة وعدم تسامح مع من يفتي بغير علم، ويوجِّه الناس في أمور دينية ليس لديه فيها معرفة أو تخصص، كما أنها لا تدخل في سياق طبيعة عمله الوظيفي.
لقد انتشرت وسائل الإعلام مستخدمة التقنية الهائلة في الاتصالات، لتنقل للناس الغث والسمين والصحيح وغير الصحيح، وتقدم للناس العالِم ومدّعي العلم والفقيه والمتفيقه والشيخ والمتمشيخ، بما أساء إلى سمعة الإسلام وشوّه صورة المسلمين وخلق جواً من البلبلة والخلافات بين الناس، وكلُّ ذلك بسبب هؤلاء الأدعياء من محبي الشهرة والأضواء والظهور الإعلامي المتكرّر.
إنّ الأمر الملكي واضح وجلي، وهو بما تضمّنه إنما يضع حداً لهذه التجاوزات، ويعيد إلى المؤسسات الشرعية هيبتها واعتبارها وإلى علمائنا الحقيقيين مكانتهم، ويرسم لهذه الأمة طريق صلاحها وإصلاحها، بالتأكيد على أن الفتوى يجب أن تعتمد على المرجعيات المعتمدة للإفتاء ومحاسبة كلِّ من يعطي لنفسه الحق في الفتوى، دون أن يكون لديه علم، ومن غير أن يؤذن له بذلك من ولي الأمر، وهو قرار مهم وتاريخي وغير مسبوق، وقد صدر في الوقت المناسب وفي أفضل شهور السنة، وعبّر عن إرادة الأمة بوصف أن ما كان يصدر من فتاوى شاذة إنما تمس الإسلام والمسلمين بالصميم مؤذية مشاعرهم ومكدّرة خواطرهم.
والملك عبدالله بن عبدالعزيز بوصفه ملك هذه البلاد وصاحب الولاية وولي الأمر وخادم الحرمين الشريفين، لم يكن ليواجه هذه الفوضى التي سادت الفتوى بالصمت، أو أن يتجاهل ما يسيء إلى المؤسسات الشرعية وإلى العلماء الربانيين، بينما تعلّق عليه الأمة الآمال في معالجة هذا الخلل الذي بدأ يستشري دون خوف من الله أو شعور بالمسئولية، لذلك جاء الأمر الملكي حاسماً في هذا الأمر بأن وضع حداً لكلِّ هذا الذي كان يقوم به بعض من يدّعون العلم بتسابقهم على وسائل الإعلام كسباً للمال والشهرة والظهور الذي لا يكلفهم شيئاً.
لقد لقي الأمر الملكي من الناس الشيء الكثير من الاهتمام، وتفاعلوا معه وأيّدوه، واعتبروه واحداً من أهم القرارات التاريخية، وكيف لا يكون كذلك وقد حمل من الإجراءات ما سيحمي الفتوى من الدخلاء الذين اعتقدوا أنّ لهم الحق والحرية في الإفتاء، دون اعتبار لهيبة المؤسسات الشرعية، ودون اهتمام بالعلماء الحقيقيين، ومن غير أن يعطوا أهمية لما تتركه الفتاوى الشاذة من تغرير بالناس وإساءة إلى تعاليم الإسلام.
بارك الله لنا بملك صالح مصلح، يذود عن الدين والمقدّسات والقيم والأخلاق، ويضع ذلك في أولويات اهتمامه، ضمن خدمته لشعبه وبلاده، وقبل ذلك ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وفّق الله خادم الحرمين الشريفين وسدّد على طريق الخير خطاه.