على الرغم من معايشتنا للمرض الذي ألمَّ بالفقيد غازي بن عبدالرحمن القصيبي وتقبلنا للفراق وتوقعه في أي لحظة إلا أن نبأ وفاته جاء كما الرجفة؛ فرجل مثله بإمكانياته وأخلاقياته وإنجازاته ومواقفه النبيلة وتواضعه وتواصله وإسهاماته الفكرية والأدبية والاجتماعية والسياسية المتميزة لابد أن يكون رحيله استثنائياً كما هو بين لداته ومجايليه استثنائياً.
لقد عرفته منذ أن بده المشاهد كلها بما ينفع الناس ويمكث في ذاكرتهم من قول حكيم وعمل رشيد.
والقصيبي الذي فارق الفانية إلى الباقية حببه إلى الناس ثلاث خصال: الهمُّ، والموقف، والرسالة.
فهو في سائر أطوار حياته يحمل هم أمته يفنى فيها ويفني فيها كل ما يقدر عليه، لا يتهيب ولا يتردد ولا يزايد ولا يساوم ويستسهل في سبيل ذلك الصعب، ولقد جرَّ عليه إصراره في سبيل وطنه وأمته الكثير من المتاعب، والكثير من الخصومات، ولكنه ظل صابراً محتسباً، وكلما استبان له وجه الصواب أخذ به لأنه ضالته، وثقته بنفسه وإيمانه بمبادئه تحفزانه على قبول التراجع، ومبادراته الشجاعة تثير بعض الحفائظ وتزكي نبرة الخصوم، ولكن الحق الأبلج يحمل المنصفين منهم على التراجع ومظاهرته في مبادراته، وهو في سائر إنجازاته الإبداعية والعملية صاحب موقف لا تكيفه الظروف ولا تحركه المصالح ولا يميل مع الريح حيث تميل، وكل صاحب موقف تمر به المتغيرات والمجاملات وأنصاف الحلول وهو ثابت لا يريم ولقد كنت ولما أزل أكبر في خصومي مواقفهم وقناعاتهم الذاتيه وأمقت في البعض منهم تلونهم الحرباوي وانتهازيتهم المقيتة، وهو صاحب رسالة نبيلة يحملها إلى الناس، ولقد جسد رسالته من خلال أقواله الإبداعية: الشعرية والسردية، ومقالاته في سائر شؤون الحياة، ومن خلال أفعاله في مختلف القطاعات الخدمية، ومن ذا الذي يجهل إنجازاته في كل المواقع التي مر بها ويوم أن شرفت بإدارة الأمسية الشعرية التي أحياها ضمن نشاطات المهرجان الوطني للثقافة والتراث قلت في كلمة التقديم: (ما عرس في مكان إلا وترك فيه ما يتركه المتنبي في شوارده.. إاذ يسهر الناس جراها ويختصمون.. ولقد كان القصيبي بالفعل كما شوارد المتنبي، ولأنه صاحب هم وموقف ورسالة، فقد ظل حتى اللحظات الأخيرة من حياته ينتج، وكأني به يستلهم قول الرسول الكريم: إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن يغرسها فليغرسها - أو كما قال - فكم من فسيلة علم أو أدب أو فكر سارع إلى غرسها وهو يعاني من المرض ويغالب أوجاعه.
والقصيبي الذي تودعه أمته إلى مثواه، الذي نسأل الله أن يجعله روضة من رياض الجنة، يولد بذكره، والذكر للإنسان عمر ثانٍ (ولقد ينقطع عمله ولكن ما تركه من آثار حسنة وسمعة طيبة ومكانة متميزة في نفوس محبيه سيبقى، وفي الحديث: إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو ولد يدعو له أو علم ينتفع به، ويقيني أن القصيبي يمد بسبب إلى تلك الأمور الثلاثة، وكتبه التي حملت خلاصة تجاربه ومجمل مواقفه وأمشاجاً من سيرته الذاتية وإبداعاته ستكون حاضرة المشاهد، وحاجة الأمة إلى القدوة الحسنة في القول والفعل، وفقيد الأمة قدوة حسنة في أعماله الجليلة التي مارسها، ومن ذا الذي ينكر ما فعله في وزارتي (الصحة) و(الكهرباء)؟ ومن ذا الذي لا يقدره قدره في إبداعاته وإنجازاته وحيواته الحافلة بجلائل الأعمال.
لقد عرفته وعرفت عزماته يوم أن قرأت قصيدة (موانئ) ولكل شاعر قصيدة يعيش فيها حضوراً مشرفاً ولكل قصيدة بيت القصيد.
وإذا كان المتنبي والبحتري وعمر أبو ريشة قد خلدتهم قصائدهم التي اقتطعوها من لحمهم فإن للقصيبي أكثر من قصيدة جسد فيها تجاربه ومعاناته، وإذا كان في إبداعاته قد ألهب المشاهد فإنها ستكون بعد وفاته أقدر على تحريك الركود، فالذين ترددوا في موضعته في حياته لن يجدوا بداً من العودة إليه ليكملوا تاريخه الذي استأنف عمله ليكتب ما يخلد ذكره..
رحم الله غازي القصيبي رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، وألهم أهله ومحبيه الصبر والسلوان.