ظلَّ هاجس الخوف على مدى عام تقريباً يؤرقنا من أن يكون مرض الدكتور غازي القصيبي مرضاً قاتلاً؛ وبالتالي لن تفيد معه المهدئات والمسكنات وحتى العمليات الجراحية، غير أن الأمل بالله ظل حاضراً بأن يشفيه ويعيده إلى وطنه وأهله بكامل صحته وعافيته، ومن ذا الذي لا ينتظر رحمة الله ولا يؤمن بشفقته ولا يلتمس الأسباب لشفائه حتى الرمق الأخير من حياته؟
***
غير أن إرادة الله، وقد كانت هي الأقوى من كل محاولات الأطباء، أكدت أن خوفنا كان في محله، وأن يوم أمس كان موعد انتقاله إلى عالمه الآخر راضياً ومرضياً عنه إن شاء الله، ولعل في ذلك خيراً للفقيد الغالي الدكتور غازي القصيبي، الذي ودَّع الوطن والمواطنين والمسؤوليات الكبيرة التي ائتُمن عليها، والأعمال الإبداعية المتنوعة التي قدمها، ونظافة اليد واللسان التي اتسم بها في تعاملاته وعلاقاته مع الوظيفة والناس؛ ليكون بذلك واحداً من الرجال التاريخيين الذين خدموا الوطن والفكر بإخلاص وتفوق وقدرات غير عادية.
***
وكل ما قيل عن غازي القصيبي الأكاديمي والوزير والسفير والشاعر والروائي والقاص والمثقف في حياته، وما سيُقال عنه بعد وفاته، لن يكون كافياً لإنصافه؛ فقد كان الفقيد صاحب مبادرات إدارية ريادية غير مسبوقة، وقدّم نفسه منذ بواكير شبابه شاعراً عملاقاً وكاتباً متميزاً وقاصاً متفوقاً، واحتل موقعاً متقدماً في قائمة المثقفين على المستوى العربي وهو ما لم يحتله مثقف سعودي آخر؛ ولهذا فإن تكريمه يجب أن يكون بقدر ما أعطى الفقيد للوطن من صحته ووقته وإخلاصه وصدقه ونزاهته ومن مواهبه الثقافية الكثيرة التي وظفها دفاعاً عن وطنه وأمته عند الشدائد والمحن.
***
نعم، لقد أحزننا أن يختفي من عالمنا هذا المواطن المبدع، ونعرف أن الدموع والأحزان لن تعيده ثانية إلى وطن هام به عشقاً وإلى مواطنين أكبروا فيه دائماً إخلاصه وجديته في العمل، غير أننا نكتب عنه من باب الوفاء، عن رجل كان أميناً ووفياً لوطنه ومواطنيه، وصادقاً في كلمته بشعرها ونثرها، وملتزماً بقول الحقيقة والتعامل مع المبدأ الذي لا يخل بشرف المسؤولية، وقد امتُحن في ذلك على مدى أكثر من أربعين عاماً فإذا به ينال ثقة القيادة والمواطنين في كل عمل أُسند إليه، مثلما نالت أعماله الأدبية استقطاب متذوقي الشعر الجميل والأسلوب السلس المثير، فما أسعد من يرحل عن هذه الدنيا هكذا وقد ترك انطباعاً وإرثاً وأعمالاً خالدة مثلما كان عليه غازي القصيبي.
***
لقد أنجز الفقيد ثلاثة كتب وهو على سريره مريضاً يتلقى العلاج عن مرض هو الأصعب والأخطر في حياته، ولا بد أن لديه مخطوطات ودواوين شعرية أخرى؛ فلعل أبناءه يسرعون في نشرها لإفادة الناس بما كان يختزنه من فكر وعلم وثقافة ضمن دائرة اهتمام أفراد المجتمع بكل ما يقع في أيديهم من مؤلفاته التي تجاوزت الخمسين كتاباً.
***
رحم الله الدكتور غازي القصيبي، الذي شغل الناس في حياته كما لم يشغلهم وزير أو أديب آخر، وبعد وفاته سيظل في صدارة اهتمام الناس بما أنجزه وقدمه من أعمال ستُخلِّد اسمه وستُبقيه في ذواكر الناس واحداً من الرموز التي يفخر الوطن والمواطن بها.