Al Jazirah NewsPaper Monday  16/08/2010 G Issue 13836
الأثنين 06 رمضان 1431   العدد  13836
 
إلى الأمام
حداثة الاستهلاك غير حداثة القيم والمفاهيم
د. جاسر عبد الله الحربش

 

السيد دوراي راج رجل عصري بكل المقاييس، يقود السيارة بمهارة ويتحدث بالهاتف الخلوي ويتابع الأخبار العالمية كما أنه يحضر في وقته الخاص للحصول على شهادة عالية في القانون. مع ذلك فإن السيد دوراي راج عندما اكتشف قبل سنوات قليلة أن أخته تخطط للزواج من شخص ينتمي لطبقة اجتماعية مختلفة، قطع هو وجميع أفراد عائلته علاقاتهم بها. الآن تسكن تلك الأخت في محل منعزل مع زوجها وطفليها اللذين لا يعرفان شيئا ً عن أقارب والدتهما.

هذا ما قاله الكاتب الهندي أكاش كابور في الصحيفة الأمريكية هيرالد تربيون العالمية يوم 3-7-2010 في مقالة له عن الحداثة في الهند بعنوان: الحداثة الهندية مسألة مزاجية أم مسألة عقلانية؟. محدثكم هنا صرخ بحبور قائلا ً يا سلام عندما قرأ مقالة السيد كابور. فرحت جدا ً لأنني اكتشفت أن ما قاله الكاتب عن مواطنه الهندي هو نفس الشيء المتوفر عندنا بمقادير أكبر من الهموم على القلب، وعندهم ربما أكثر. اللهم لا شماتة، لكن الواحد يفرح عندما يقارن مصائبه بمصائب الآخرين ويحمد الله الذي لا يحمد على مكروه سواه.

الموضوع الذي تحدث فيه الكاتب الهندي يغوص بعمق غير معهود عندنا في مواضيع الحداثة والعصرانية والتمازج والتمايز الطبقي والمخاض الذي تمر به الهند نتيجة انتقالها المفاجئ من مجتمع رجعي تقليدي قديم باتجاه مجتمع صناعي حديث بمعنى الحداثة التي تفرضها أساليب العمل وكسب الرزق الجديدة على المفاهيم والتحولات الاجتماعية. لكن لماذا يغوص الكاتب الهندي نحو أعماق أكبر في تلك الأمور أكثر مما نغوص نحن هنا؟. هل لأننا لا نجيد السباحة بعد، أم بسبب الرهاب والقشعريرة التي نشعر بها عندما نلامس مثل هذه الأمور، أم لأنهم هناك قطعوا شوطا ً أكبر نحو المصارحة قبل المصالحة الاجتماعية النهائية، أم كل ذلك وغير ذلك مضافا ً إليه.

يقول الكاتب ضمن ما يقول إن الهند لم تواجه مشكلة في الانتقال إلى النهم الاستهلاكي. الأسواق الضخمة والمطاعم والمقاهي وحوانيت الإنترنت وهواتف اليد والبلاك بيري وبطاقات الاقتراض وكل ما يمت إلى الاستهلاك الجارف موجود وتم الانغماس فيه حتى على مستوى المدن الصغيرة وبعض القرى. لقد عانقت الهند الاستهلاك الرأسمالي غير المنضبط بحرارة وشغف ولكن!. لكن الهند لم تعد تنظر باندهاش وإعجاب نحو إنجازاتها التاريخية القديمة بل تتطلع بشغف وفخر إلى ما يسميه الشباب الهندي القرن الهندي الجديد. ثم يطرح الكاتب كلمة لكن مرة أخرى ويتساءل: لكن هل أصبحت الهند حقيقة أمة حداثية عصرية؟. يشير إلى مقتطفات من كتاب للمفكر الهندي ديبان كار جبتا عن الحداثة المفهومة خطأ ً أو المفاهيم الخاطئة للحداثة ويقتبس مصطلحا ً محددا ً عن مفكر إيراني الأصل قائلا ً إن الهند مصابة بالتسم الغربي، وأكتب هنا المفردة بالإنجليزية لطرافتها (westoxication). الانطباع هنا هو أن الهند أخذت من الحداثة الغربية أنماطها الاستهلاكية وأساليب العيش وأهملت التمسك وكذلك اكتساب قيم التآخي والتسامح المتضمنة في الديمقراطية الحداثية. إنه يقصد بذلك أن المجتمع الهندي الجديد اندفع بحماس نحو المفهوم الاستهلاكي للحداثة لكنه فرط في شيئين، الأول هو عدم تبني المفاهيم الديمقراطية والتسامح الحداثية، والثاني هو إهماله لقيم التسامح والتعايش التراثية فأصبح المجتمع حداثيا ً بمعنى الاستهلاك ولكنه أكثر عنصرية من المجتمع القديم بكل عنصرياته التراثية القديمة. أليس عندنا من ذلك الشيء الكثير؟.

في شهر يونيو لهذا العام صدر تقرير في صحيفة العصر الآسيوي الهندية عن ألف حالة قتل سنويا ً بسبب المس بالشرف العائلي عن طريق الزواج من طبقات غير لائقة بالانتماء العائلي. بعض المقاهي في الهند ما زالت تقدم الشاي في أكواب خاصة للأنقياء غير تلك الأكواب التي للأنجاس، على حد مفاهيمهم. تتعدد وجوه العنصرية وتتخذ أشكالا ً مختلفة من القبح، لكن الأسباب كلها تعود إلى الخلل في منظومة المفاهيم الاجتماعية.

تتحدث إليكم الزاوية القادمة إنشاء الله عن أكواب الأنقياء والأنجاس والخلل المشترك في منظومة القيم الاجتماعية، ودمتم بحفظ الله.



 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد