وفي مطار (انطلانطا) الذي بنته إحدى الشركات، بدون تكلفة على الجهات المختصّة، وإنما تستثمره سنوات محدودة وهي التي تديره حتى تسترد
ما اتفقتْ عليه مع الجهات المعنية، كان لنا فيه أكثر من موقف، وبالمناسبة، فإن الشركات هناك تتبنى مشروعات كالطرق، والأنفاق والكباري، والمطارات وغيرها: تمويناً وبناءً واستثماراً من جانب فيه تخفيف عن الدولة في التموين والإدارة والصيانة والتشغيل، ومن جانب التخفيف عن كاهل الدولة أيضاً في رصد مبالغ كبيرة لمثل هذا المشروع وغيره.
هذا المطار يدوّخ الغريب، والذي يجهله ببوابات لكل شركة، أبرزنا لمندوبة شركة الطيران التذاكر، فقالت مشيرة لمكتب: هذا يوضح لكم، وبسؤال المسؤول فيه، قال عليكم أن تنزلوا لمحطة القطار وتأخذوا القطار الأخضر، وبعد ثلاث محطات انزلوا ثم اركبوا القطار الأصفر، وبعد محطتين انزلوا ثم خذوا القطار الأحمر والمحطة الثانية انزلوا فيها ثم اصعدوا الدرج إلى مكاتب الشركة التي حُجز لكم عليها.. وبالمناسبة لكثرة شركات الطيران هناك، ما بين صغيرة وكبيرة، فإن عددها كما فهمنا 72 شركة. فأخبرت صاحبي بذلك وقلت ما رأيك؟ قال: لا رأي لي، وسلمت الأمر لله ثم لك.
قلت: ما رأيك لو استعملنا طريقة الدروشة، وأننا لا نفهم حتى لا نضيع في هذه المحطات، ولا يفوت علينا وقت الرحلة فوافق فأخذت التذاكر، وبطاقات (الترانزيت) وجوازات السفر، ورجعنا إلى مكتب الشركة، وقدمنا بطاقتي (الترانزيت) للمضيفة فقالت لا، أريدكم أن تأخذوا القطار إلى البوابة، مفهوم، فرددت عليها بإعطائها التذاكر، فردتْ بشدة لا أريدها اركبوا القطار، فأعطيتها جوازات السفر وكلما تكلمتْ: أرد عليها: «آي دونت نو» أيْ لا أعرف، وكلما زادت في الضجر منا، أعطيها الثلاثة تناولاً، واحداً بعد الآخر..
فسمعتها تكلم شركتها بالهاتف الخاص: لتقول: أرسلوا للمكتب مضيفة من الخاصات بالمكتب.. لذوي الخدمات المنفردة ليأخذوا هذين الراكبين إلى خدمات الأطفال.. وتعني بذلك ما يرسله بعض الأسر من أبنائهم الأطفال ذكوراً وإناثاً من بلد لآخر ليكونوا تحت رعاية ما تقدمه الشركات من خدمات خاصة للعجزة والأطفال ومن يخاف الضياع مثلنا وغير ذلك من الأسباب.
وما هي إلا لحظات، حتى جاءت مضيفة تحمل شعار شركة الطيران لكن بلباس متميز، فقادتنا ولم تحدثنا بشيء حتى أدخلتنا في غرفة خاصة بها مجموعة من الأطفال ما بين 5 سنوات إلى 12 سنة تقريباً، وقدمت لنا الخدمة، وقالت انتظروا هنا.
وبالحديث مع بعض الأطفال، إلى أين هم ذاهبون فإذا هم لمدن متنوعة لكن ليس منهم أحد للمدينة التي نحن ذاهبون إليها ولما حان موعد السفر، جاءت وتحدثت مع الجهة المختصة، بشركتها طالبة تحضير سيارة خاصة عند بوابة خاصة في أرضية المطار قائلة: إن معي راكبين كبيرين لا يجيدان أي لغة ولعلها معتبرة لنا بأننا طرمان - أي لا نحسن الكلام -. وأنها ستنزل بهما مع الدرج الخلفي.. وبعد فترة وجيزة جاءتها المكالمة بالإيجاب، فأخذت بأيدينا، واقتادتنا معها.. وفي الطريق لما أرادت هدفاً وقفنا عند حاجز لا ينفتح إلا لكل فرد بدولارين، فقالت أعطني ستة دولارات، فأعطيتها على طريقتنا السابقة: بطاقة الترانزيت، فقالت: لا أعطني 6 دولارات فأعطيتها التذاكر فقالت: لا دولارات ستة، دولارات ستة فأعطيتها الجوازات ونحن معها واقفون أمام هذا الحاجز.
فتأففت وأخرجت بطاقة معها، ووضعتها في الحاجز فانفتح، وتركت واحداً منا يمر وانقفل، ثم وضعته ثانية فانفتح فمر معه الآخر، ثم انقفل، ثم وضعته في المرة الثالثة فانفتح ومرت معه، وسرنا فإذا حاجز آخر وعملنا وعملت كالمرة الأولى ثم وجدنا الحاجز الثالث وبجواره السيارة وعملنا وعملت كالمرتين السابقتين، ومشت معنا حتى السيارة وهي مهتمة بنا ففتحت باب السيارة ونزلنا وحملت ما معنا من حقائب يدوية وصعدت سلم الطائرة لأننا ركبنا من الأرض وكانت حاجزة لنا في المقدمة، وتوثقت من ربطنا للأحزمة..
وبعد نزولها تحركت الطائرة بعد أن أوصت المضيفات علينا.. فقلت لصاحبي: ما رأيك في هذه الدروشة، لقد وفرت لنا جهداً ووقتاً ومالاً، لعل ذلك يخفف ما أخذه منا (زنجي التاكسي في نيويورك).
وكان منذ خوفته من ذلك السائق الزنجي صار يردد الورد ويدعو الله أن يعيده لأهله وأولاده سالماً وألا يعيده لهذه البلاد مرة أخرى.. وقد تحقق له ذلك في ما عرفت فقد أحيل للتقاعد ولم يسافر وانقطع عني خبره لأنه ترك الرياض.
عندما وصلنا (مونتجمري) التي سميت على اسم قائد عسكري إنجليزي، وكان في الاستقبال بعض من كان من السعوديين في دورة ونفر من المسلمين الجدد، وهم قليلون جداً، حوالي الثلاثين: رجالاً ونساء، وكانت أول ليلة نصل في يومها، وهي ليلة الشك في دخول رمضان، وقد حملنا هماً في تلقي خبر الصيام، لأن هذه الولاية في الطرف الجنوبي من أمريكا، والمسافر إلى النصف الآخر من الأرض، ينقطع عن عالمه الإسلامي والعربي أو يكاد، فلا يجد صحفاً أو إذاعات، تخاطبه بلسان قومه، ولا تنقل شيئاً عن رمضان.
ووسائل الإعلام هناك تهتم بالأخبار، وغيرها من الوسائل الإعلامية، البعيدة عن الدين الإسلامي، حتى أخبار العالم الإسلامي لا وجود لها، وهذه الولاية على الحدود مع المكسيك، تمتلئ بهم السجون التي يقدر عددها في هذه المدينة بأربعة.
وكان المسجد إن لم يكن مستأجراً فهو معار، لأن حاكم هذه الولاية ومدراء السجون متعاطفون مع الإسلام، وفي مقابلة مع الحاكم قال: إذا كان للناحية الأمنية علاج، فبالإسلام لأن عندهم دعاة يفدون من الولايات، ويقول نرحب بهم، وقد أسلم على أيديهم مجموعة من المجرمين ولذا فإن من أسلم في السجن تخفف محكوميته، ويصلح في المجتمع، ولا يعود للجريمة مرة ثانية.
وبعد صلاة العصر في ذلك المسجد التف حولنا جميع المسلمين في هذه المدينة: النساء منفردات، وبيننا وبينهن ستارة، ويسألن من خلفها وأغلب المسلمين منهم مع قلتهم من الملونين..
وكان مما دار من نقاش هل غداً من رمضان، أم لا؟ لأن لديهم اختلافات في أمريكا متعددة، حسب الميول السياسي، لكن فهمنا بأن الغالبية في أمريكا الشمالية لا يقتنعون بدخول الشهر وخروجه، وموعد العيد، إلا بما يتحقق في المملكة العربية السعودية ولا خلاف بينهم فقد كانوا يسألون المراكز الإسلامية، يستوضحون: هل ثبت دخول الشهر في المملكة، وقد تحقق ذلك.. وهذا شيء نعتز به لثقتهم في علماء المملكة ومكانتها.
وقد عبر عن هذا مسلم جديد اسمه عبد الله، وقد كان كما قال: من كبار المجرمين، فقبض عليه، وأسلم في السجن وحسن إسلامه وأسلمت زوجته وكان من المحبين للمملكة ولما سألناه هل زرتها أو حججت؟ نفى ذلك، أحببتها لأن بيت الله فيها، والرسول قام برسالته فيها وعاش فيها ومات فيها فهي عندي خير البلاد في الأرض، وأجمع مالاً حلالاً بعدما أسلمت لكي أحج وأبدأ حياة جديدة مع الإسلام.
توالت منهم الاتصالات وتتبع خبر شهر الصوم حتى ثبت لديهم أن المملكة قد صامت، ولذا عقدوا العزم على الصيام، لكنهم لم يسبق لهم أن صلوا التراويح لأن الأغلبية إسلامهم جديد، فعزمنا معهم على الصيام غداً وأن نصلي التراويح، ونسهر للحديث والنقاش في الأمور الدينية ومن حرصهم ما أكثر أسئلتهم، فدعوا بالهواتف أفراداً من المسلمين الجدد في البلدان القريبة للحضور والصلاة معنا.
كان من بينهم اثنان، واحد كان قساً فأسلم، والثاني كان مجرماً وصاحب سوابق فقبض عليه وأودع السجن وقد أسلم، وكان من حديث السمر تلك الليلة سؤال كل واحد من الاثنين عن قصة إسلامه:
فأجاب الأول الذي كان قساً وكان من الملونين وقد منحه الله بسطة في الجسم ووزناً وطولاً حتى أن حذاءه لا يجد له نمرة لأن نمرته تزيد عن الخمسين، فيعمل عند المختصين تفصيلاً يتلاءم معه، قال عن إسلامه: إن معه في الكنيسة قساً أبيض وحصل بينهما نقاش في موضوع اختلفا فيه فقال زميله الأبيض: سأعمل جهدي بألا يغفر إلهنا لأنك أسود ولا للسود كلهم من أجلك، فجلست ليلتي تلك أفكر هل الآلهة متعددة، وهل للسود إله غير إله البيض وهل هناك تفرقة عنصرية وبينهما شحناء، ولم أنم تلك الليلة، وفي الصباح ذهبت لأول مدينة أجد فيها مركزاً إسلامياً وسألت عما أهمني، فكان الجواب من شيخ هذا المركز: أن الإله سبحانه واحد، ولا يوجد في الإسلام تفرقة عنصرية، وبسّط لي تعاليم الإسلام فأسلمت واستقر قلبي والحمد لله.
أما الثاني: فقال: إنني كنت من أصحاب السوابق و(البوليس) يبحث عني وأنا حذر منهم، وهو من السود.
وفي ليلة من الليالي كنت في أحد جوانب الطرق السريعة، وأرفع يدي بالإشارة لمن ينقلني معه كعادة من يحتاج لإسعاف، ولا أؤشر للسيارات العسكرية من شدة الحذر لأنني مطلوب، ومرت سيارة مدنية، فرفعت الأصابع المعروفة في حالة النجدة، وركبت فيها خلف السائق وأخرجت مسدسي طالباً من السائق الاستسلام، وإلا قتلته ووضعت فوهة المسدس في ظهره.. فأبدى إيجابية تصورته من الخائفين وهدأ السيارة ليقف على جانب الطريق وبحركة سريعة أخذ المسدس مني، وجرني بشعري بقوة وتكلم بجهاز معه، وبلمحة البصر أحاطت بنا مجموعة من سيارات الشرطة مخبأة تحت الأشجار، فأنزلوني وضربوني وقيدوني، وأودعوني في السجن وفي السجن يأتي دعاة الإصلاح من الكنائس ومن المسلمين فأسلمت وحسنت أخلاقي فخفف عني.. وعند خروجي كان هناك ثريّان عربيان واحد ليبي والآخر عراقي عندهما مصانع يستقبلان من يخرج من السجن مسلماً، لتدريبه على مهنة تغنيه عن الإجرام، وبعد عملي عندهما وجدا لي عملاً في إحدى الشركات فأحسست بنعمة الإسلام وراحة البال والاستقرار.