جمع النادي الأدبي بحائل الأعمال الكاملة للأديب جارالله الحميد وأصدرها في كتاب متوسط الحجم بلغ 196 صفحة، واشتمل على قصص قصيرة ضمتها مجموعات قصصية عديدة مثل أحزان عشبة برية.. ووجوه كثيرة أولها مريم.. ورائحة المدن.. وظلال رجال هاربين..
وجاء على الغلاف الأخير كلمة للناقد الدكتور محمد صالح الشنطي، أكد فيها أن جارالله الحميد حريص على التشكيل التجريدي الرمزي الذي يعبّر عن إحساس الكاتب بالغربة متمثلة في الرحيل الدائب تارة والعزلة الموحشة تارة أخرى، والتوحد مع الكائنات الأخرى ومكابدتها وانبعاثها من بين فكي الرحى، حيث المنهج الإيقاعي المفعم بالتداعيات الحبلى بالصور الإيحائية، وتتعدد طرق الحكاية واللغة التراكمية التي تحتشد بالجُمَل المليئة بالافتراضات والاستقصاء والتقاط التفاصيل.
وكتب جارالله الحميد في مقدمة الكتاب يقول:
لم أكتب القصة القصيرة كشيء أرغب باقتنائه داخل مجتمع تهلهلت فيه قيم الحب والمتعة التي تورثها نصوصي، إنها ليست أكثر من تساؤلات وحفر في الذاكرة الجمعية بغية الوصول إلى خلق إبداع بقدر خصوصيته ينتمي إلى العالم. والقصة القصيرة هي من أصعب الفنون؛ لأنه في داخل العمل تكنيكات متعددة. ولقد تأثرت بالسينما فجاءت معظم قصصي وهي تشبه مشاريع فيلمية. إنني إنسان أحب السلام والعدالة والوطن والناس، وهذه هي مؤهلاتي لا غير.
الكتابة هي متعة، وهي مسؤولية أيضاً، والكاتب هو قنديل الظلام في مجتمع يعود حينا إلى الماضي فتشعر بقسوة النكوص، وأنا في النهاية في غاية الامتنان لنادي حائل الأدبي؛ كونه طبع هذه المجموعات؛ لأنني لا أحتفظ بأعمالي بعد نشرها. إن كل مجموعة هي تاريخ مرحلة من القناعات الفنية والإنسانية؛ ولذا ستشعرون بالتنوع والذاكرة الملأى برائحة أسواق مضت مع مَنْ مضوا، وهي طالعة من الروح مثل راية محارب لا يريد أن يهزم! ولكنه يدرك حجم منافسيه من الضاربين صفحاً عن همّ وطن وناس. أعدكم بذلك.
في إحدى قصصه (الظل) كتب جارالله الحميد يقول: كنا نعرف بعضاً منذ زمن بعيد، أبوه يبيع الأشياء المستعملة، وكنا نعرف في السوق أنه ابنه الوحيد المدلل، لم يتغير منذ تلك السنوات التي تغيرت فيها أشياء الطفولة، واختفى فيها السوق نهائياً، وذهب معه آباؤنا وبضائعهم الصغيرة وملاعبنا والحيوانات التي راكضنا معها والخناقات المتكررة، وهو لم يتغير؛ لم ينبت شعر وجهه وظلت تقاطيع وجهه طفولية تماماً.
وكلما تمددت المدينة، وتناثر ناسها، تمدد النسيان، ولكنني لا أكاد أنساه حتى يجعلنا شيء ما نرى بعضنا.
فقد رأيته اليوم أيضاً في السوق المركزي كان يتظاهر بأنه منهمك في مجلات قريبة من مكاني، وفي لحظة سريعة يرفع وجهه الطفولي إليّ، وعندما ابتعدت عن مكاني لأتيح له استكمال بحثه الحاد اصطادت عيوننا بعضها بارتباك، حياني ذاكراً اسمي بتبجيل، رددت تحيته بحياد رغم أنني ابتسمت مثله، وانهمكت من جديد في العناوين والألوان والصور المتشابهة.
حانت مني التفاتة إلى باب الخروج، رأيته يحمل مجلاته وجرائده خارجاً بخفة وهدوء، ورامقاً إياي بنظرة حانية فيها ظل ابتسامة، وعند المحاسب اكتشفت أنني سرحت؛ إذ نبهني هذا بأن رفع كيس حاجياتي وخبطه مرتين على الطاولة مبتسماً. أعطيته نقوده، وخرجت مكتشفاً أنني اشتريت حاجيات لا تلزمني البتة.
عند إشارة المرور تذكرتُ أنني رأيته قبل أيام أو في محل للعب الأطفال، وأنه حياني بالطريقة نفسها (رسم على وجهه الصغير تلك الابتسامة المتقنة)، ولكنني لم أبالِ أينا خرج أولاً، وعلى الأرجح أنه أنا.
كنت أريد لعبة معينة، أجابني البائع بأنها غير موجودة.
بينما كان يجيل عينيه في الرفوف بتلك النظرات غير المحدودة.
حين فتحت الإشارة تذكرت أنه دخل بعدي محل اللعب.
قلت محركاً شفتي بطريقة ما: مصادفة!