الكلُّ مفارق هذه الدنيا وتاركها، هذه سنّة الله في خلقه، عجلة تدور تبدأ من ساعة الميلاد، وتقف عند ساعة الميعاد، وعندها تبدأ رحلة جديدة تبدأ من المواراة في بطن الأرض حتى يأذن الله بميلاد جديد، وعن المواراة في ثرى الأرض يقول أبو العلا المعري: «... ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد».. في كل يوم يوارى في الأرض أجساد وأجساد،
الكثير منها يفنى ويندرس ذكره، وتنطوي صفحات أخباره مع توالي السنين، وتنطفئ الأضواء من حوله مع توالي الليالي والأيام، ويغيب عن ذاكرة الأهل والأحباب رسمه وذكره، والقليل من مفارقي هذه الدنيا الفانية يظل حياً، يتجدد ذكره، ويبقى في ذاكرة التاريخ بما خلفه وخلده من أعمال جليلة، وعلوم نافعة مفيدة، ومواقف نبيلة، أبقته حياً لم يمت، حاضراً لم يغب.
الذين بقوا أحياء بعد أن فارقوا الدنيا، قليل عددهم، لكنهم يعدون نخباً مميزة، ومنارات مضيئة، حققوا ذلك بجهد جهيد، وسعي دؤوب، و بالإخلاص والتفاني، وتنزيه الذات من المصالح الشخصية، والقدرة الفائقة على التغلب على المعوقات التي تحول دون العطاء المثمر، وباتباع المنهج الصحيح في بلوغ الغايات والآمال.
غازي القصيبي فارق الدنيا مثل غيره من بني البشر، وسوف تستمر عجلة المفارقة في هذه الحياة الدنيا في الدوران لتلف كل الأحياء، «كل نفس ذائقة الموت» نعم فارق «غازي» الدنيا بعد أن كان فيها ملء السمع والبصر، لكنه سيظل حياً في الذاكرة والوجدان، باعتباره واحداً من النخب المميزة، والمنارات المضيئة، والقيادات المؤثرة، والمآثر المتنوعة، لقد نال مكانة سامقة على مستوى الوطن، وغرس محبة في وجدان المواطن، وشهرة واسعة تعدت حدود الوطن وآفاقه، لقد تحقق له كل هذا، فهل بالاستطاعة تحقيق كل هذا المجد الرفيع؟، والتربع في القلوب والاستئثار بها؟، والاستحواذ الدائم على الاهتمام؟، حتماً الإجابة بالنفي، لأن تملك مثل هذا الاستحقاق، وبلوغ هذا الإنجاز، لابد أن يكون وراءه الكثير من الإنتاج والجهد، لقد حاز سبقاً في الإنتاج الفكري والإبداع الأدبي، وسمات شخصية في التواصل والاتصال، مع من يعرفهم، ومن لا يعرفونه، وهو بهذا النهج وسع دوائر المحبين له، المتأثرين بعطائه، المعجبين بسيرته ومنهجه.
فمن مآثره في القطاعات الحكومية التي كلف فيها وزيراً، أنه لا يعد نفسه مسيراً للأعمال اليومية التي تعرض عليه، كما جرت العادة عند كثير ممن يكلف بالإدارة في القطاعات الحكومية، بل تعامل مع المهمات والأعمال بمنظور المطور المجدد، المبادر إلى التغيير وفق رؤى طموحة تسابق الزمن وتختصر المسافات، لامس عن قرب التحديات والمعوقات وتعامل معها مباشرة، تغلب عليها بإرادة وعزم، وظف الإعلام لتحقيق مزيد من الإنجاز وليس لمزيد من الأضواء، لأنه تجاوز عقدة الأضواء وبريق الإعلام، ليس بحاجة لها، بل كان الإعلام يلاحقه ليحقق من تغطية نشاطه السبق.
ومن مآثره، ثراء الإنتاج الفكري، المتنوع في مجالاته، والأدبي الممتع شعراً ونثراً، شد الانتباه، وأسر العقول، وتملك الوجدان، حلق في الآفاق إبداعاً وتجديداً، وشخّص الأحداث وتفاعل معها بصدق، تجرأ في تناول القضايا المعتمة، حللها وشخّصها وسبق غيره في التنبوء بانعكاساتها ومخاطرها، سطر بقلمه ووجدانه الكثير مما يستفاد منه حاضراً ومستقبلاً، ومما يمكن المطلع على تجنب أسباب الفشل، وتحقيق النجاحات، ففي كتابه «حياة في الإدارة» الكثير من الدروس والعبر التي يمكن توظيفها والتأسي بها في صناعة التفوق والنجاح.
كنا في زيارة للبحرين، وكان وقتها سفيراً لخادم الحرمين فيها، زرناه في السفارة، وجرى حديث مطول في جملة من القضايا التربوية، كان أحدها عن إحدى مؤسساتنا التعليمية الكبرى وانتقالها إلى مقرها الحالي، وما تميز به المبنى من فخامة في البناء والتأثيث، وكان رده -يرحمه الله- المؤسسات التعليمية لا تكتسب مكانتها وسمعتها العلمية من جمال المبنى ومقدار كلفته المالية، المكانة والسمعة تتحققان بعضو هيئة التدريس، فهو الأولى بالعناية في الاختيار والإنفاق. رؤية تتجه للهدف مباشرة، ولا تلتفت للبهرجة والكماليات.