إنا لله وإنا إليه راجعون.. رحل غازي القصيبي في الخامس من رمضان وانتقل إلى الرفيق الأعلى للقاء رب رحيم؛ رحل غازي بعد عام من الترحال والمعاناة مع المرض؛ رحم الله غازي رحمة الأبرار وأسكنه فسيح جناته وألهم أهله وذويه ومحبيه الصبر والسلوان.
«وعندما يرحل عنا... واحد من صحبنا... يموت بعض قلبنا... ثم نعود بعد أن يجف دمعنا... لدربنا... للضجر اليومي والرغبة والإعياء... وفجأة... في دفتر الهاتف... يطفو اسمه أمامنا... ونلمح الرقم على الصفحة مغموراً بماضي حبنا... وباليد المرتجفة... نشطب رقم الهاتف الصامت من دفترنا المسكون بالضجة والأحياء... نودعه ذاكرة الأشياء... وفجأة نذرف دمعتين... نذرف دمعتين، لأننا ندفن من نحب مرتين» (غازي القصيبي).
أقدم عزاء خاصاً إلى صحيفة الجزيرة وإلى أسرة تحريرها فقد أثبتوا سوياً بأنهم الاستثناء في التعامل مع غازي شخصاً وفكراً، فيما نحن اليوم نتبارى جميعاً في سرد الذكريات مع فقيد الوطن على كل مستوياته وبكل أطيافه لذلك الإنسان الأديب الشاعر المفكر الوزير، رفيق الملوك والرؤساء ورفيق المعوقين والبؤساء، زميل الأمراء والوزراء وصديق الضعفاء والفقراء. أثبتت صحيفة الجزيرة وأسرة تحريرها أنهم موقف ورؤية أكثر من كونهم صحافة الممكن والمسموح. استطاع خالد المالك، رئيس التحرير والمسؤول الأول في صحيفة الجزيرة أن يعرف برؤيته الثاقبة وموقفه الثابت أن هذا الوطن بحاجة إلى فكر عبقري يخلصه من رجيع الفكر، وفكر الرجعية في زمن ظهرت فيه أحلامنا نحو التقدم والتنمية. فكان غازي بوسطيته المنهجية وسطوته الفكرية ذلك الفارس المغوار شعراً ونثراً قولاً وعملاً. رحمك الله ياغازي.
لم يتفوق غازي لأنه شاعر، ففي الوطن ألف شاعر وشاعر؛ كما لم يتفوق لأنه كتب الرواية والقصة والأقصوصة والمقال، ففي كل يوم نشهد مئات الروايات والقصص والمقالات في مواضيع شتى، وبالتأكيد أن غازي القصيبي ليس الوزير الوحيد الذي أتقن عمله وأنتج أكثر ففي جوانب الخدمة المدنية العامة والخاصة رجال صدقوا ما عاهدوا عليه كثير منهم في مثل نتاج وإتقان غازي القصيبي. لكن العناصر الخمس: الحب والصدق والنزاهة والتفاؤل والإصرار تحيل العمل الأدبي شعراً أو نثراً والعمل الإداري في الوزارة أو السفارة إلى صلة عاطفية وقضية ذاتيه يدركها ويفهمها ويحسن قبولها المتلقي. ولذا تفوق غازي حتى على نفسه -»رحمه الله» كان يسخر من عبارة «تفوق المرء على نفسه»- بل، وأزيد أكثر من ذلك، أن تلك العناصر الخمسة تحيل حتى العمل العقائدي إلى إيمان مطلق، ترفعه من مجموعة طقوس إلى صلة حقيقية بين العبد والمعبود ?قُلْ لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا?.. رحمك الله يا غازي.
«إخوتي لا تغضبوا... إن قلت مازلنا صغاراً... مازلنا نرضع نهد الأمس... نمتص شعاراً فشعاراً... عندما نضحك من أنفسنا... عندما نقوى على لمس الجراح... عندما نقتلع السور ونمشي في الرياح... سوف نرتد كباراً» (غازي القصيبي).
بيننا اليوم ألف غازي وغازي فنحن أمة فتية تطمح للمعالي وتسابق الزمن للحاق بما فاتنا بعد أن نسينا القطار بين الصحاري والقفار، في وقت تحاول فيه شرائح منسية بأفكار همجية أن توقف عجلة الزمان في حدود المكان وتجمد التاريخ في طبيعة الجغرافيا، وذلك أمر لا يتفق أو يتسق مع الخلق والخليقة. تشجيع المخلصين الصادقين العاشقين لوطنهم هو الإيمان الحقيقي بواجب الفرد تجاه المجموعة وواجب الإنسان تجاه الكون وخالق هذا الكون. نحاور الأديان والحضارات والدول والأمم ونعجز عن محاورة أنفسنا أو مواطنينا بالحسنى ونصر على ?إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ?.. فهذه الإبائية رفضها الإسلام وحاربها، لكننا نمعن في التماهي بها والتخلق لها والتعلق بأهدابها. رحمك الله يا غازي.
مصابنا يا وطن في فقدان إبنك البار والمواطن المصلح غازي بن عبدالرحمن القصيبي أمر جلل ورحيله عنا فيه عظيم الملل نرجو من الله العزيز القدير الرحمن الرحيم أن يكتب لفقيد هذا الوطن الأجر وأن تسكنه يا رب فسيح جناتك واحشره مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا.. وألهم زوجته وأولاده وذويه ومحبيه الصبر والسلوان على فقدان حبيبهم وأجزهم خير الجزاء على صبرهم وسعة صدرهم على نكراننا وجحودنا وافترائنا. رحمك الله ياغازي.. وإنا لله وإنا إليه راجعون.
turadelamri@hotmail.com