قليلون هم الرجال، الذين يصمدون لما يمرُّ بهم، ولا تهزُّهم الأحداث، أو يُصْفُوا للمؤثِّرات المراد بها المساس بمكانتهم. وغازي من هذا النوع -رحمه الله، ثابت في مبدئه، مستقيم في ولائه للوطن ومع ولاة الأمور. فهو لم يتغير ولا يتزحزح، لأنَّ معدنه أصيل، وولاءه صادق.
وقد كثر حُسَّاده، وأشرعوا سهامهم ضدّه، في كلِّ موقف أثبت فيه الجدارة والتجديد، وتزايد عددهم -وكل ذي نعمة محسود- بل تعدى الأمر من فَلَتَاتِ اللسان إلى يراع القلم، في صُحُف خارج الحدود (حسدوا الفتى إذْ لم يكونوا مثله). وما ذلك إلا أنَّ الأناني، والخامل في تفكيره ونظرته للأمور لا يتعرّض له الحسَّاد، ولما كان القول الكريم.. "أذكروا محاسن موتاكم"، فإنَّ من الأمانة، ذكر بعض محاسنه وهي كثيرة، بانت في أعماله التي تقلَّدها، وأدركها منه ولاة الأمور، فكانوا له مؤازرين، وشدوا عضده، لأنَّ البلاد لا تنهض إلا بالعاملين المخلصين بعد توفيق الله.
ولذا فالدكتور غازي، قد برزتْ بصماته، في كلِّ موقف من أعماله: بالشهامة والجرأة والجديد، مع تخطيط بعيد الأثر، فقد تقلَّد في وزارة الصناعة والكهرباء أعمالاً كان يعاني منها المواطنون، فرسم خطة نَعِمَتْ بآثارها القرى والأرياف والمزارع، أكثر مما تحقَّق في المدن، وحَمَدَها له أصحاب المصانع.
وبعدما ذهب للصحّة، كان يفاجئ الأطباء في عياداتهم، ويجلس بين المرضى المنتظرين للعلاج، ليتعرّف على معاناتهم كأنَّه مواطن عادي، ليجد من أحاديثهم مَدْخَلاً للإصلاح، وتأييداً، ومن ثم تلبية مطالبهم، فأحدثتْ متابعتُه نَقْلةً كبيرة.
وله آثار في الصناعات البتروكيماويَّة، برزتْ منذ الأولويات ثم ازدادت مع اتّساع الطَّلب، في المدن الصناعية الكبيرة في الجبيل وينبع وغيرهما بالساحلين الشرقي والغربي، حتى نهضتْ الصناعة، وقامتْ المدن الصناعية والفنية ومصافي التكرير،.. يعينه على ذلك الشجاعة وقناعة ولاة الأمور بفكره وبُعْد نظره في الدراسة والتخطيط.
وفي وزارة العمل تحمَّس لتوظيف الشباب وتأهيلهم، فنياً ومهنياً، للأعمال التي كانت حِكراً للعمالة الوافدة، فبدأ مسيرته التي نوَّه عنها أكثر من مرة، بأنَّها شائكة وعميقة الجذور، لكنَّه تسلَّح بالصبر مع التخطيط، ورَسَمَ منهجاً للعمل المتفاعل فيه. فقد صقلته الأعمال الكثيرة التي تقلدها: إدارياً وصحياً وسياسياً وفنياً. فأدرك أهمية الدور والمشاركة في بناء هذا الكيان الذي اهتمَّ به ولاة الأمر، بتمكين الأسس الراسخة في التشييد، لترتفع بذلك المكانة المرجوَّة.
قابلتُه أول مرة عندما كنتُ في مرحلة الطلب بالقاهرة، وكانت في بعض الصحف المصرية أقلام، امتدَّتْ للتناول منه، قدحاً غير مركّز، واتهامات لا مبرر لها، فكان من حديثه على من قابله هناك، لو اهتم كلُّ مسؤول بما يُقال لما عَملَ، والكلام يطير في الهواء، فأدركتُ بُعْد نظره الإداري، كما بانتْ نزاهته لدى المراقبين لأعماله.
ثُمَّ تكرر اللقاء في البحرين عندما كان سفيراً, فكان يتابع الصغيرة بنفسه، ويقابل المراجعين بطريقة الباب المفتوح، وله جلسات عامة في البحرين وعندما كان سفيراً بلندن. ويؤثرُ عنه القول: لا يمكن للمسؤول إدراك خفايا العمل ما لم يسمع من كل الناس، ويناقش معهم أمورهم.. فأدركتُ سعة صدره في الاستيعاب، وأُفُقَه في المعالجة، ومع كونه قد مارس السياسة من أوسع أبوابها، فهو أديب وناقد، مع موهبة شعرية نادرة، كما قال الدكتور الخويطر: "لو شاء لما تكلَّم إلا شعراً". وسعدتُ بإهدائه بعض كتبه ودواوينه، وقد عرضتْ بعضها على صفحات (الجزيرة). وقد لمستُ من الوفاء ذلك أن هذا الرجل -رحمه الله- متعدد المواهب، ففي كل ميدان يلجه يبرز فيه، وقد عُرف عنه النزاهة ويظن المراقب لأعماله: إدارياً وعلمياً، أن هذا هو ميدانه، ولا شك أن من كان يتحلى بتلك المزايا يعتبر فقيداً في مجتمعه، وخسارة على وطنه، نسأل الله حسن الخلف.
فأحسن الله عزاء الوطن فيه، وعفا الله عنه، ولعل الله يرفع منزلته عنده، مع الصديقين والشهداء، بما برز من محاسنه في أمور منها اهتمامه بتفسير القرآن الكريم، كما جاء في تأبين الدكتور عبدالعزيز الخويطر له، عن ذلك: بعد دراسة وافية، ومتأنية لتفاسير القرآن الكريم الذي يرجو كل قارئ أن يرى النور ضمن آثاره العلمية.
وهذا من بشائر الخير له، لأن القرآن يأتي شافعاً لمن قرأه يوم القيام - تقدمه سورة البقرة.. وآل عمران- كما أخبر النبي الكريم بذلك. فرحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته، فقد قدم على ربٍّ غفور رحيم.