Al Jazirah NewsPaper Friday  20/08/2010 G Issue 13840
الجمعة 10 رمضان 1431   العدد  13840
 
المسكوت عنه
تأملات في التخطيط المركزي للأيدلوجيات
د. حمزة بن محمد السالم

 

ينعم معظم الهنود بخدمة التلفون المتحرك بينما نصف بيوت الهند بلا كهرباء! في هذه المفارقة العجيبة كتب مارتين، أستاذ الاقتصاد بجامعة هارفارد، مقالا في جريدة وول ستريت قال فيه: «خدمة التلفون المحمول متوفرة على نطاق واسع في الهند وبتكلفة منخفضة وما ذاك إلا لأن الحكومة تعتبر التلفون المحمول شيئا من الترف فلم تسيطر عليه وتركت إدارته لعوامل السوق، بينما تعتبر الحكومة الكهرباء ضرورة إنسانية لذا فالدولة تديرها، ولذا فقد أصبح من الصعب الحصول عليها».

الفكر الاقتصادي هو نتاج عن الفكر الأيدلوجي وتابع له وليس العكس، ودليل ذلك الأديان السماوية. والتخطيط المركزي للسوق أثبت فشله في جميع الدول الشيوعية والحكومات الاشتراكية. وما أهون فشل التخطيط المركزي للسوق إذا ما قورن بفشل التخطيط المركزي للأيدلوجيات. فالشيوعية لم تستطع أن تفرض فكرها على شعوبها إلا بالحديد والنار، وكذا هي حال كل أيدلوجية تعجز على أن تقوم بنفسها فتلجأ إلى الجبر والإكراه بقوة السلطان وتطبيل الإعلام، تحت غطاء السرية والتكتيم. وبخلاف الشيوعية، نمت الرأسمالية وتطورت وتحولت وتبدلت عبر العقود تحت الهواء الطلق في سوق الحراك الفكري الحر، ففرضت فلسفتها على شعوبها بالإقناع والقبول.

الحراك الفكري في المجتمع كالسوق: إما أن تكون تنافسية والبقاء فيها للأصلح والأجود، والطيب يطرد الخبيث، وإما أن تتدخل الحكومات فيها فتفسدها وتعرقل نموها فتحتل موقعها في مؤخرة الأمم، ترفع شعارات التزييف الفكري والاقتصادي حينا من الزمن حتى تضطر الحكومات إلى أن تتخلى عن مبدأ التخطيط المركزي للفكر وللسوق على حد سواء، إما على أيدي أُمنائها وعقلائها أو خوفا على نفسها من ثورات الشعوب الدامية. وشاهد ذلك ما نراه أمامنا من التحولات في روسيا وآسيا وأوروبا الشرقية وفي بلاد الصين والهند وبلاد العرب.

حطمت الصناعات الحربية في القرن المنصرم إستراتيجية الأسوار والقلاع والخنادق فلم تعد عوائق تحول دون اختراق العدو. وفي حصار الفكر، كان القتل والسجن والنفي -إلى عهد قريب - كفيلا بالقضاء على الشريحة المفكرة في الجيل الأول من المجتمع المدني ومن ثم تُدجن الأجيال في حصار فكري أيدلوجي يخدم طائفة قليلة على حساب تخلف الأوطان وفقر الملايين من شعوب تلك البلاد. وكما فعلت الصناعات المتقدمة في تحطيم دفاعات المدن، فكذا فعلت الاتصالات الرقمية في العقد الذي نعيشه في تحطيم حصار الفكر، فلم تعد هناك قوة تستطيع أن تفرض أيدلوجية معينة ولا أن تحجر على فكر الشعوب، والبقاء للأصلح.

التخطيط المركزي للفكر أو للسوق هو معول هدم الحضارات وهو كاتب سيناريو الفقر والمأساة، وهذه هي التجارب ماثلة أمامنا من فيتنام الشمالية مرورا بدول العالم ووصولا إلى أوروبا الغربية وأمريكا. البضاعة الجيدة والرخيصة لا تحتاج إلى سلطة لفرضها على المستهلك، وكذلك الفكر لا يحتاج إلى سلطة تؤيده إلا إذا كان هزيلا مفلسا من المنطق وعاجزا عن مقارعة الخصوم. لم تمارس حكومة قط في العصر الحديث عملية التخطيط المركزي للفكر والأيدلوجيات بالجبر والإكراه إلا وأصبحت أيدلوجيتها أطلالا يبكي عليها قدامى محاربيها.

تحديد الأسعار من قبل الحكومة هو فتيل إشعال السوق السوداء وازدهارها، مما يخرج الحكومة جملة وتفصيلا من السوق الحقيقية التي يتبايع فيها الناس، فتكثر الجريمة وينتشر الظلم وينهار الاقتصاد. وكذا تحديد الفكر من قبل جهة واحدة -في عصر المعلومات الرقمية- ما هو إلا دعوة صريحة وقوية لإقامة أكبر ساحة فكرية خارجة عن إشراف الحكومات وتوجيهها ليجد فيها بعض الخبثاء والأشرار أفضل بيئة لنشر الأفكار المنحرفة التي ستلقى قبولا عند عامة البسطاء كردة فعل لرفضهم الإكراه الفكري.

إن ضعف المؤسسات الفكرية في العصر الحديث لا يستقوي بالسلطة، وإن مما سكت عنه أن فرض الفكر بقوة الحكومات - في عصر المعلومات الرقمية الذي نعيشه- ما هو إلا إسراع لعملية القضاء على مدرسته وحرمانها من فرصة تصحيح أوضاعها.



 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد