مع إطلالة هذا الشهر الكريم، والوافد العظيم الذي اختصه الله تعالى بمزايا وخِلال، ونفحات وهبات، أعظمها وأجلها نعمة إنزال الكتاب المبين، الذي جعله الله هداية للعالمين، وبيانًا لشريعة رب العالمين، وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين، بإنزاله بالحق صار معجزة النبي الكريم، محمد صلى الله عليه وسلم، وارتبط الصيام بالقرآن إنزالاً ومدارسة وتلاوة وتدبرًا؛ فهو شهر القرآن، ويستمر هذا التلازم حتى يكونا يوم القيامة من الشاهدين،.....
.....فالصيام والقرآن يشفعان، «يقول الصيام رب منعته الطعام والشهوة بالنهار فشفعني فيه، ويقول القرآن: رب منعته النوم بالليل فشفعني فيه، فيشفعان»(1).
وبهذا الكتاب العظيم صارت شريعة رب العالمين محفوظة بحفظه، محمية بحمايته وحراسته من التبديل والنقصان، ?إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَه لَحَافِظُونَ?(2)، وقيَّض الله لحفظ هذا الدين وحمايته وحراسته رجالاً نذروا أنفسهم لخدمة دين الله، وحفظ شريعة الله، انتظم هذا العقد الفريد صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاءه الراشدين، وعلماء المسلمين وحكامهم على مر العصور والأزمان، ليأتي هذا العهد الزاهر، والحكم النادر الذي يدنينا من عصور الخلافة، ويقيض الله عز وجل الملك الصالح عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود - طيب الله ثراه، وجعل الجنة مأواه -؛ ليقيم هذه الدولة المباركة على أساس من كتاب الله تعالى وسُنّة رسوله صلى الله عليه وسلم والتزام منهج سلف الأمة، وينتصر لدين الله، ويقيم أعظم وحدة في التأريخ المعاصر، ارتكزت على أشمل منهج قام على أساس الشريعة، يجمع بين أصالة المبادئ والأسس والقواعد ومعاصرة الرؤية والأساليب والوسائل، ويحمل على عاتقه هذه الأمانة العظيمة التي تعد سرًّا من أسرار العز والتمكين الذي أيده الله به، مصداقًا لقول الله عز وجل:?وَعَدَ اللَّه الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ?(3)، وقوله جل شأنه: ?الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاة وَآتَوُا الزَّكَاة وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّه عَاقِبَة الْأُمُورِ?(4)، وهذه الثوابت تعدُّ من الرواسي والأسس التي قام عليها هذا الكيان العظيم المملكة العربية السعودية، ويعززها ويقويها اعتمادها دستورًا للبلاد وأساسًا للحُكْم، فالحمد لله على هذه الآلاء العظيمة، والنِّعم المتجددة، ويستمر على هذا النهج السديد والركن الأصيل أبناؤه البررة وحكامنا الميامين إلى هذا العهد الزاهر المبارك عهد مليكنا المحبوب خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز - أيده الله وأمد في عمره على الطاعة - صاحب المنجزات النوعية، والمبادرات الحضارية، والمواقف الإنسانية، التي لو رام كاتب أو راصد أن يرصدها أو يحشد الأرقام والإحصاءات لاستيفائها لأعياه ذلك، وأعظم مواقفه ومبادراته ما يصب في خدمة الثوابت، وحماية جناب الشريعة، وتأكيد هذه الأصول العظيمة، والأسس المتينة، وكان آخرها وليس لها آخر - بإذن الله - ذلك الموقف العظيم الذي لا يُستغرب من رجل المواقف والمهمات، حينما أصدر توجيهه الكريم وأمره السامي إلى سماحة المفتي العام للمملكة العربية السعودية الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ - حفظه الله - في الثاني من شهر رمضان المبارك من هذا العام بقَصْر الفتوى وحصرها في الشؤون العامة على المؤسسات الرسمية من أعضاء هيئة كبار العلماء وأعضاء اللجنة الدائمة للإفتاء، وضبط مسارها بالإلزام بأخذ الإذن اللازم للمتصدر لها ممن يرى في نفسه أنه أهل لذلك من الجهة المختصة بذلك، ولم يكن القرار وحده مثار الإعجاب ومصدر السرور والاعتزاز والافتخار فحسب، بل ذلك البيان المتضمن للتوجيه الكريم الذي اعتمد نصوصًا من كتاب الله تعالى وسُنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وانتهج منهج السلف الصالح، فكانت مضامينه شاملة وافية، قوية متينة رصينة، مؤسَّسة على النصوص والأصول والقواعد، مرتكزة على مبادئ أساسية من حفظ حرمة الدين، وحماية جناب الشريعة، واستعمال الصلاحية الثابتة شرعًا لولي أمر المسلمين التي جعلها الله عز وجل له، فيتصرف في رعيته بما يحقق المصالح ويدرأ المفاسد؛ لأن تصرفه منوط بالمصلحة. والحق أن هذا البيان الشافي والتوجيه السامي مأثرة من مآثر ملك الإصلاح - أيده الله -، تسطر له بأحرف من نور، ويخلدها التأريخ كشاهد من شواهد عزة الدين، وقيام إمام المسلمين بما توجبه عليه الأمانة والمسؤولية، وما يتطلبه الوضع الراهن، ومحمدة يشكرها كل مواطن بل كل مسلم لمليك الحكمة والسداد.
وكم نحن بأمسّ الحاجة إلى تلك المضامين المهمة، والأبعاد المؤثرة، والأمر السامي والقرار الحكيم الذي جاء في وقته بلسمًا شافيًا، ومنهجًا سديدًا، ورأيًا رشيدًا، جاء في ظل اضطراب وتحير واختلال في مرجعية الفتوى، وتناقض أحدث فتنًا لا يعلم مداها إلا الله، فكان هذا البيان توجيهًا شرعيًا علميًا وطنيًا واضحًًا بينًا قاطعًا لكل طريق فتنة، قاضيًا على كل خلاف، من ملك عظيم، ورجل ملهم فذ، بعيد النظر، سديد الرأي نافذ البصيرة. وإننا لنستشرف في هذا القرار أن يكون له انعكاساته الإيجابية، وأصداؤه المؤثرة، لا على الصعيد الوطني فحسب، بل على الأصعدة العربية والإسلامية والعالمية كافة؛ لأنه صدر من قيادة وطن الإسلام، ومأرز الإيمان، وقدوة العالم، ولا يملك مسلم إلا أن يحمد الله على ما وفق إليه خادم الحرمين الشريفين وسدده به.
وبقراءة تحليلية لمضامين هذا الخطاب السامي وأبعاده يقف المسلم المحب لدينه ووطنه وولاة أمره على جملة من هذه الأبعاد، لا بد من إبرازها، والوقوف على تفاصيلها تعبيرًا عن المشاعر، وإبرازًا لتلك المآثر، وقيامًا بالواجب تجاه هذا الدين والوطن، فأقول:
إن أول ما يسترعي الانتباه، ويسر الخاطر في هذا البيان الملكي: أنه يأتي في منظومة ثوابت الدولة التي قامت عليها؛ فهي دولة التوحيد والعقيدة والشريعة، وأمر الدين لا مساومة عليه، وأول من يغار على دين الله مَنْ هم قدوة مواطنيهم ورعيتهم، ألا وهم ولاة الأمر - أيدهم الله -، فالخطاب في مضمونه وصياغته يُعدُّ قرارًا مدروسًا في غاية الإحكام، يعكس ما يتمثله ولاة الأمر، وما يحملونه من غيرة على دين الله، وحماية لشريعة الله، يتأسون في ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي وصفه خادمه أنس رضي الله عنه بأنه ما انتقم لنفسه إلا أن تنتهك حرمة الله فينتقم لله بها(5)، كما أن الخطاب تميز بالدقة والشمولية والإحكام، ويمكن استنتاج الحلول والمعالجات من نصه وفحواه وإشارته.
ومن مضامينه المهمة: تعظيم شرع الله جل وعلا، واحترام شعائره، والوقوف عند حدوده؛ لأن الفتوى شأنها عظيم، وخطرها جسيم؛ كونها «المنصب الذي تولاه بنفسه رب الأرباب، حيث أفتى عباده، فقال في كتابه الكريم: ?وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاء قُلِ اللّه يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاء الَّلاتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّه كَانَ بِه عَلِيماً?(6)، وقال أيضا: ?يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللّه يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَة إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَه وَلَدٌ وَلَه أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَة رِّجَالاً وَنِسَاء فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللّه لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللّه بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ?(7)، فقد نسب الإفتاء إلى ذاته، وكفى هذا المنصب شرفًا وجلالة أن يتولاه الله تعالى بنفسه. قال ابن القيم: «وأول من قام به من هذه الأمة سيد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيين عبد الله ورسوله، وأمينه على وحيه، وسفيره بينه وبين عباده صلى الله عليه وسلم، فكان يفتي عن الله بوحيه المبين، وكان كما قال له أحكم الحاكمين: ?قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْه مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ?(8)، فكانت فتاواه صلى الله عليه وسلم جوامع الأحكام ومشتملة على فصل الخطاب»(9).
ولا يخفى أن الإفتاء خصوصًا في النوازل يحتاج، إضافة إلى العلم الغزير الواسع، والملكة الفقهية التي يتمكن بها من الاستنباط، والشروط والضوابط كافة التي ذكرها العلماء في باب الاجتهاد.. يحتاج أيضًا إلى بصيرة وعلم دقيق لظروف النوازل، وارتباطاتها، وجملة من المقدمات التي قد يستفاد فيها من أصحاب التخصصات الأخرى التي تعين على فَهْم وإدراك النازلة؛ حتى يكون الحكم فيها متفقًا مع الأدلة الشرعية، والمقاصد المرعية، والقواعد والمبادئ التي يسلم بها الحكم من الاضطراب أو التناقض، أو غير ذلك من المؤثرات.
وقد شبه ابن القيم - رحمه الله - المفتي بالوزير الموقع عن الملك، فقال: «إذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله ولا يجهل قدره، وهو من أعلى المراتب السنيات، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات»(10)، ومن هنا فالمفتي يوقع عن رب العالمين ويُظهر شريعة رب العالمين، وتلك مرتبة لا بد فيها من الاحتراز والاحتياط واستكمال الأدوات وآلية الاجتهاد والاستنباط؛ ليكون من يتكلم بها يظهر حكم رب العالمين، ولا يكون متجنيًا على الشريعة؛ ولذا جاء في البيان أن هذه الضوابط المرتبطة بالفتوى «يجب الوقوف عند رسمها تعظيمًا لدين الله من الافتئات عليه من كل من حَمَل آلة تساعد على طلب العلم، ولا تؤهل لاقتحام هذا المركب الصعب... وإنما هو التطفل على مائدة الشرع، والعجلة -خالي الوفاض - في ميدان تحفه المخاطر والمهالك من كل وجه»، ألا فليهنأ خادم الحرمين الشريفين أنه بهذه الغيرة التي عظم بها دين الله، وصانه من القول على الله بلا علم بما يحقق التقوى، قال الله تعالى: ?ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّه فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ?(11).
ومن أبعاده التي لها دلالتها الأكيدة: انتقاء الوقت الذي صدر فيه، حيث تزامن مع هذا الشهر، فكما أنه شهر القرآن الذي أنزله الله دستور حكم ومنهج حياة، فهو الوقت الذي اختاره الملك المبارك خادم الحرمين الشريفين ليعلن فيه قراره السامي الذي يفيض بالمعاني الشرعية، والدلالات العظيمة، وتعكس غيرته على دين الله، وانتصاره لشريعة الله، ويوقف الفوضى والتلاعب والاضطراب والنزاع.
ومن مضامينه المهمة: أن هذه الدولة دولة عقيدة وتوحيد وإخلاص العبادة لله - عز وجل - وتطبيق لشرع الله - عز وجل - انطلاقًا من كتاب الله وسُنّة رسوله صلى الله عليه وسلم ومنهج السلف الصالح، ويدل على ذلك ما تضمنه هذا الخطاب من الآيات البيّنات والأحاديث النبوية الشريفة وما ذكر فيه من أن السير فيه على منهج السلف الصالح، وهذا كما مرَّ من ثوابت هذه الدولة التي قامت على عقيدة التوحيد غضة طرية كما أنزلت في كتاب الله، وكما دعا إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قرر ذلك علماء الأمة المحققون الباقون - حفظهم الله -، ومن انتقل منهم إلى رحمة الله، فقد سجلوا شهاداتهم للتأريخ أن هذه الدولة هي الأقرب على مرّ التاريخ لعصر الخلافة الراشدة، وما ذاك إلا لأنها تنهج منهجًا سديدًا وتقوم في مبادئها وأسسها على قواعد الشريعة وتحكّم ذلك في صغير الأمور وكبيرها ودقيقها وجليلها في جميع أعمالها وتعاملاتها الداخلية والخارجية.
وهي دولة إقامة شعائر الله، وعلى رأسها وفي مقدمتها الصلاة، فها هي مساجد يُذكر فيها اسم الله عز وجل ويُعلن الأذان فيها في الأوقات الخمسة في البر والبحر وفي الحضر والبدو وفي كل شبر من أراضيها بما لا يُعلم له نظير ولا مثيل في العالم كله.
وهي دولة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وترسي قواعد هذا الأمر وتدعو إليه وتدعمه بكل ما أوتيت من قوة مادية ومعنوية، وهذا ما وصف الله به الخلص من عباده، حيث إنهم إذا مكّنهم الله أظهروا شعيرة الأمر والنهي، يقول الله عز وجل: ?الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاة وَآتَوُا الزَّكَاة وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّه عَاقِبَة الْأُمُورِ?(12)، وقد وعد الله - عز وجل - بالنصر والتمكين لمن كان هذا شأنه وحاله، وهذا والله هو الذي تقوم عليه المملكة العربية السعودية، ونشهد الله على هذا.
ومن مضامينه المهمة: الرفع من شأن مؤسسات هذه الدولة الشرعية على مختلف مستوياتها وتنوع تخصصاتها سواء ما يتعلق منها بالإفتاء أو القضاء أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغيرها، وما تجده هذه المؤسسات من الدعم والعناية والرعاية والمساندة وتيسير وتذليل كل ما من شأنه أن يجعلها تقف عزيزة مهابة الجانب محترمة، لا تقبل هذه الدولة المباركة المساس بها من صغيرٍ أو كبير ذكرٍ أو أنثى مهما كان شأنه وقدره، ومن هنا جاء التأكيد على أن هذه المؤسسات يجب أن تقوم بدورها الريادي وأن تحقق كل متطلباتها وفق الأنظمة التي قامت عليها، وأن ذلك غير قابل للاجتهاد الفردي، وأن هذه المؤسسات هي خير من يقوم بأهدافها وتحقيق رسالتها، وهذه النظرة الصائبة التي تحيل العمل إلى جهد مؤسسي واجتهاد جماعي تنتظمه الهيئات العلمية الشرعية التي تعنى بشأن النوازل والقضايا والحوادث، وما كان هذا شأنه فهو أقرب إلى تحقيق الرؤية المتوازنة والحُكْم المبنيّ عليها، ومراعاة الأبعاد المختلفة التي تستلزمها دراسة القضية وأعمال القواعد والمقاصد التي قد ينتج مراعاتها والنظر فيها درجة في الحُكْم لا تتضح بالاجتهاد الفردي، أو القول المرسل عن هذه الأبعاد، ومليكنا بهذه الرؤية العميقة يدلل على أنه يرسم منهجه ورؤيته وتوجيهاته وفق نظرة مقاصدية عميقة، نص عليها الفقهاء الأجلاء، وذكروا تفاصيل هذه الرؤية في أبواب الاجتهاد والتقليد، وينتج عن هذا البُعد بعدٌ آخر لا يقل أهمية عمّا ذُكر، وهو أن هذه الأطر والمعالم التي وردت في مضامين الخطاب الملكي تدل على ارتباط الدولة بالعلم والعلماء ورعايتهم ودعمهم والرفع من قدرهم وشأنهم وتعظيم منزلتهم، فما هذا التفصيل والتأصيل والاستدلال إلا شاهد حق وواقع صدق على أن شأن العلماء واجتهاداتهم محل الرعاية والدعم بل والحماية من دولة التوحيد والعلم، ويحق لنا أن نقول إن هذا القرار يحفظ هيبة العلماء ومكانة الفتوى، ويحدد الصلاحيات ويضع الأمور في نصابها.
ومن مضامينه المهمة: أن فيه الحديث عن جانب مهم وقضية أشغلت الناس وجعلتهم يعيشون في فوضى لا يمكن تداركها إلا بمثل هذا الربط والحزم من والقوة من ولاة أمرنا - حفظهم الله - ألا وهو شأن الاضطراب في الفتوى، فعلاوة على دلالته على أهمية الفتوى ومكانتها إلا أن الجانب الآخر وهو دلالته خطورة التسرع فيها والتهافت عليها شأن أخطر؛ لأنه من خلال رصد الواقع والوقائع يجد المتأمل أن الفتاوى تحولت إلى أطروحات تصادمية، ومهاترات وفوضى وإبراز لشواذ الآراء، ونشر للجدل المذموم، وأشعل ذلك وفعّله الزخم الإعلامي والتركيز على فتاوى قد تكون في إطار خاص، أو لها ظروفها، وتتحول إلى جدل وتشكيك في النوايا، ووقوع في الأعراض، فجاء هذا البيان تأسيسًًا وتأصيلاً فكريًا وعلميًا وشرعيًا لهذه القضية الحسّاسة بطريقة فريدة ومتميزة يندر أن نجدها في خطابٍ أو كلام غير هذا التوجيه الكريم، ولذلك جاء فيه التحذير من التتايع في الفتوى والتساهل فيها والتنازل عن مبادئ الشريعة أو جعلها محلاً للقيل والقال والمزايدة وغير ذلك، وأن من سلك ذلك الطريق تساهلاً أو تنازلاً أو تشددًا فإنه ستطوله يد المحاسبة والحزم من هذه الدولة المباركة، ونحن قد رأينا ما وقع من الخلاف والاختلاف والشقاق والنزاع وجعل الناس يعيشون فوضى لا يعرفون من يتبعون، وهذا الواقع لا يمكن أن يعالج إلا بمثل هذا البيان العظيم الذي اتسم بالحكمة وبالعودة إلى حياض الشريعة وبالأخذ من الكتاب والسُّنَّة وما كان عليه سلف هذه الأمة وعلمائها.
ومن مضامينه المهمة: أن راعى طبيعة الفتاوى وشأنها بنظرة تتفق مع أصول الشريعة وقواعدها، فما يعظم خطره وضرره وأثره ويكون له طابع العمومية له شأن، وما يكون في إطار الشؤون الشخصية والخاصة له شأن آخر.
أما الفتاوى العامة، وهي: التي تطول الناس وتنال أحوالهم وأمورهم الدينية والدنيوية فهذه لا يمكن لأي شخص مهما كان علمه وفضله ومكانته أن يفتي بها، وإنما هي موكولة إلى من نص الخطاب على أنهم أهل الاختصاص فيها، وهم أعضاء هيئة كبار العلماء ومن يوافق لهم على الفتيا فيها.
وأما الفتاوى الخاصة، وهي: ما حدد في القرار الملكي بما يمنع الاجتهاد أو التوسع فيها، فهي الفتوى المتعلقة بالعبادات والمعاملات وفقه الأسرة في صورة تكون بين السائل والمسؤول بين المستفتي والمجيب، ولا تظهر على السطح ولا تعلن على الملأ ليعيش الناس على بصيرة في أمور دينهم ودنياهم، ولا شك أن هذا تقسيم رائع وفريد ويبعد الناس عن الوقوع في أية مشكلة من المشاكل التي وقعوا فيها من خلال الفتاوى التي أفتى بها بعض الناس.
ولا شك أن هذا التقسيم تأطير له أثره العميق في تغليب المصالح العليا، وجمع الكلمة، وتوحيد الصف، ولاسيما أنه اقترن بالعقوبة الرادعة التي تجعل القرار واقعيًا «إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن».
- ومن أبعاد هذا الخطاب الملكي: البُعد الفكري الذي لا يقل أهمية عمّا سبق؛ حيث أكد القرار ضرورة ارتباط الفتوى بالمشهور والمعروف من أقوال أهل العلم «على أن يمنع منعًا باتًا التطرق لأي موضوع يدخل في مشمول شواذ الآراء ومفردات أهل العلم المرجوحة وأقوالهم المهجورة»؛ ذلك أن الشواذ لا حد لها، وبتتبعها وإبرازها تحصل الفتنة، وما ظهرت الحركات والجماعات المتطرفة إلا باستنادها إلى شبه تمثلها هذه الشواذ التي من تتبعها لم يقف به قطار الفتنة عند حد، ولاسيما «أن النفوس ضعيفة، والشبه خطافة، والمغرض يترقب»، كما ورد في مضامين الخطاب الملكي، وصدق مليكنا - يحفظه الله -، والتاريخ يشهد، والواقع يرصد أن من تورط في أعمال الهدم والفساد والإفساد متلبسًا بلبوس الدين زاعمًا الجهاد إنما اتكأ على مثل هذه الشواذ، واستغل بها العواطف، وحصل بفعله ما حصل.
ومن مضامين هذا الخطاب: أنه قَصَرَ الفتوى على هيئة كبار العلماء، ومن يرفع لهم ويوافق من المقام الكريم على الإذن لهم بالفتيا، وهذا ما يحقق مصلحة الضبط والتأطير مع توسيع الدائرة فيفتح المجال لاختيار الأكفاء الأمناء الذين عُرفوا بسلامة المنهج وصدق الانتماء والولاء للدين والوطن، وقوة العقل؛ ليكون ذلك مانعًا من صور الفوضى، وسدًّا أمام مَنْ رام الشهرة والظهور بهذا المقام العلي، وإن من واجبنا ومسؤوليتنا أن نلتزم بذلك وأن نتواصى عليه، وأن نحذّر ممن قد يخرقه أو يخالفه كائنًا من كان، ونحن نعرف أن أصحاب الفتيا الذين لا يلتزمون بذلك إما أن يكونوا أصحاب شهوة أو شبهة وكل أولئك كلامهم شر وفتنة، فعلينا أن نحذرهم ونحذر منهم ونلتزم بما صدر من قيادتنا وحكومتنا؛ لأن فيه الخير والعودة إلى الحق.
ومن مضامين هذا التوجيه الكريم: أنه أعاد الأمور بعمومها وخصوصها وقواعدها الكلية والجزئية والمطلقة والمقيدة والعامة والخاصة إلى الحق؛ فهو المعول عليه، وهو المقياس الذي توزن به الآراء والأقوال والتصرفات، فيجب أن يعلق به الرجال، وليس الرجال هم الذين يعلق بهم الحق؛ لأننا إذا جعلنا الحق مرجعًا عقديًا وفكريًا ومنهجيًا وعلميًا وشرعيًا سلمنا ولم نقع في الخطأ والزلل، ولم نوالِ ونعادِ على الأشخاص والأفراد، وإنما نوالي ونعادي على مبادئ الدين وقواعده وحقائقه الكلية، أما إذا علقنا الحق بالرجال فوالله إنها الفتنة الدهماء، والشرور المتلاحقة؛ لأن الإنسان إذا كان ينظر إلى أن الحق مع هذا الرجل فحسب، وأن ميزان اعتبار الحق فيه كونه رأيًا لفلان، ومخالفة المخالف معيار لبطلانه بغض النظر عن استدلاله فهنا يقع في المهالك والشرور، ويكون هذا المبدأ وهذا المعتقد الذي يعتقده طوقًا في عنقه، وبراكين وزلازل تزلزله، وتؤدي به إلى الفتن والشرور والمخاطر، ولقد رأينا ذلك واقعًا عيانًا بيانًا فيمن جعلوا هذا مبدأهم ومنهجًا لهم.
كما أن من المضامين المهمة التي جاءت في سياق البيان الملكي: التنويه بشأن الشعيرة العظيمة خطبة الجمعة، ذلكم الخطاب المنبري الذي أعلى الشرع مكانه، ورفع شأنه، وحدد أهدافه، فهو ليس مجالاً للإثارة والتشويش، أو تهييج العواطف تجاه قضايا دون تأطيرها بالأطر الشرعية، أو توظيف المنبر للنقد والتجريح والغيبة والإنكار العلني، وغير ذلك مما بين العلماء أنه خروج بالخطبة عن هدفها، وهذا ما تضمنه البيان الملكي: «وفي سياق ما ذكر ما نما إلى علمنا من دخول بعض الخطباء في تناول موضوعات تخالف التعليمات الشرعية المبلغة لهم عن طريق مراجعهم؛ إذ منبر الجمعة للإرشاد والتوجيه الديني والاجتماعي بما ينفع الناس لا بما يلبس عليهم دينهم ويستثيرهم في قضايا لا تعالج عن طريق خطب الجمعة»، وهذا الربط بين الفتوى والمنبر مراعى فيه أبعاد الانحراف عن مسارهما وتداعيات هذا الانحراف على المجتمع، والتشابه في الواقع حاصل، ومن هنا فإن مسؤولية الخطباء لا تقل عن مسؤولية من يظهر حكم الله في مسألة، والواجب أداء الأمانة فيهما، استشعارًا لعظم هذه الولايات الشرعية.
وأختم بأن أقول: إن هذا التوجيه الملكي وثيقة عظيمة من وثائق هذه الدولة المباركة، وخطاب قوي يضع الأمور في نصابها، والنقاط على حروفها، فليس لزائد أن يزايد عليه، ولا لمتقول أن يتقول عليه، ولا لمرجف أن يدخل بين كلماته وسطوره، فهو منظومٌ نظمًا، ومؤسسٌ تأسيسًا شرعيًا علميًا فكريًا عقديًا وطنيًا، إذا أخذنا به فإنه يؤدي إلى الأمن في العقول والأفكار والطمأنينة في المعتقد والعلم وجميع الأمور الدينية والدنيوية.
فهنيئًا لنا بهذه المواقف العظيمة من عظماء الرجال، والحمد لله الذي وفق خادم الحرمين الشريفين إلى مثل هذه المبادرات المؤثرة، والقرارات التاريخية التي سيكون لها أثرها في ضبط المسار وتصحيح الخطأ، ونسأل الله سبحانه أن يمكّن لإمامنا وولي أمرنا، وأن يسدد قوله وفعله، ويجعله من أنصار دينه وأعوانه، كما نسأله سبحانه أن يحفظه بحفظه، ويكلأه برعايته، ويمده بعونه، ويديم عليه نعمه إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
*****
( 1) أخرجه الإمام أحمد والطبراني الحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم.
(2) الحِجر:9.
(3) النور:55.
(4) الحج:41.
(5) أخرجه البخاري ومسلم.
(6) النساء:127.
(7) النساء: 176.
(8) ص : 86.
(9) إعلام الموقعين عن رب العالمين 1-11.
(10) إعلام الموقعين عن رب العالمين 1-10.
(11) الحج : 32.
(12) الحج : 41.
(* ) مدير جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية