أنا ما زلت أذكر أنني كنت هناك.. قبل قليل أخذتني الطريق تحت إبطها, وطوتني كطي السجلات للكتب، وكممت ذاكرتي, ووزعت عيني على الأشياء المتأبدة على جنباتها.. وأمر عليها سريعا وهي تلوذ وراء نافذة الباص.. كل شيء كان يركض وأنا متسمر في مقعدي وبين يدي كيس حلوى من سقط المتاع ما يسمح لي استخدامه خلال عملي في الميناء..
السراب عالم موارب ولئيم، يبتلع البهجة ويزرع الملح في شهوة العيون, ويأخذني إلى عالم مؤجل من الندى.. ويهيل علي الرؤى المتولدة كتلا من الأوهام.. دوامة السراب تكتنفني من كل جهة, ولولا ذاك الختيار الذي انفلت من صبيب السراب وافترش الأرض هناك، لقلت ليس في هذا العالم الكئيب إلا أنا.. سماء مجردة من العواطف، وشمس تقلبك بأكفها الحامية ذات اليمين وذات الشمال.. وآفاق مغلقة على مبهمات مغموسة باللمعان..بين هذا الضجيج الصامت أتحرك مثل حرذون أدمن التمدد على صخرته العتيقة.. أتحرك، لعل ابتسامة حقيقية تولد علي الاحتمالات.
الشمس الحارقة تضغط بعضي في بعضي... ندى مالح ينز من ثقوبي.. يذكرني بحاء الريح والحياة فأختار الحيرة والختيار في هذه البرية المتجهمة.. لا مناص من ذلك..
يجترّني الزمن وألوك عقاربه، ويأخذ قلبي يعزف على وتر اللحظة ما كان وما سيكون... جذبني الكيس إليه.. المتعبون هم هكذا مثل تفاحة نيوتن؛ وطنهم في خرائط التعب، ولا وطن لي في هذه الساعة سوى هذا الكيس التعيس.. هو وطني وسأدافع عنه مهما كان الثمن.. ربما أسيّجه بدمي، وأحميه داخل حدائق روحي، أنف بني صهيون! ضحكت من هذا العصف الذي يغيب فترة ثم يجتاحني بجنون حاملا معه بعض مدوناتي في الحلقة الحزبية قبل عشر سنين.. شيء من ماركس وشيء آخر من غيفارا. وأشياء كثيرة من فكر قريب.. صهيون هي هوامش غضبي، وفي لحظات الملح والشوك أحرق هذه الهوامش..
وأعود إلى قامتي المرتجّة وأقول: أي قيمة لهذا الوطن في صحراء حارقة؟! غارقة في بداياتها الأولى؟! بيد أن الوطن هو الوطن حتى وإن كان حلماً ًمرتجى... كنت منحشرا ً فوق كيسي داخل نفسي.. فأي كون هذا الذي يستوعب واحداً مثلي؟!
تلح علي نفسي أن التفت غرباً..
أنا أخاف من الغرب، لأنه متصل بالريح الغربية، والغربان، والغرب المستعمر، والغربة، وأذكر مرة أن والدي ضربني على غاربي لأنني أضعت (التعريفة) التي أعطاني إياها مصروفا.. وأسأل: ماذا في الغرب؟ دعاني إلى هنا مثل كيس بلاستيكي حملته الريح على غير هدى، حتى استقر بي المقام على هذا الطريق، نقطة ضائعة على كف الزمن، اختلط متني بالهوامش والأعباء..
التفت إلى الغرب..
لا بأس، كنت قبل قليل عالقاً بين جزر الفرح وغبار الخوف وانفلاتي من قاعة آخر امتحانات التوجيهي.. تسوقني قدماي إلى الطريق الضيق المحاذي للوادي.. هل أنا فرح؟ هل أنا بائس؟ شعور يتخبطني كأنه مس، ويدفعني إلى الأمام دفعاً كالمتهم بين رجال الشرطة.. واجهتني والدتي عند دخولي دارنا العتيقة بقرارها الذي لا يقبل النقض: هيا يا ولدي، ها هو كيسك وهذا المبلغ وإلى العقبة.. حياتنا صعبة يا ولدي..
لم أنبس ببنت شفة، قفز كيسي إلى ظهري، واستردتني الطريق من جديد.. أهو قدري هكذا، لا يعاند؟!
أتعبني الغرب، وأنا أستفز منه بؤسي..
السعال المتواصل من (الختيار) ردني إليه.. رأيته يثبت نظره علي.. رفعت صوتي ويدي: مرحبا يا عم.. لا استجابة.. حافظ على قعدته التي اختارها لحظة وصوله..
نقلت عيني إلى الشمال استنطقه نقطة متحركة.. لكن الضباب كان سيد الامتداد والصمت.. الرهبة والموت كائنات تئز في أذنيّ.
آه على شربة ماء..!
آه على كسرة خبز..!
آه يا أمي من قراراتك القاسمة أحفظك غيبا، أنت، كما وصفك والدي ذات يوم، قلب رجل وجسم امرأة! ألم يكن من الرحمة أن تنتظري يوماً أو يومين ثم تنفذي حكمك بي؟ آه من شوك الحياة يا أمي! الأفق يهتز ودولة الصمت تستيقظ على الجلبة، والسراب يتقطع حيث كانت عيناي.. نقطة سوداء تكبر وتكبر وتسد الطريق، لابد من مغامرة في مثل هذا الموقف، اندفعت إلى وسط الطريق ولوحت للسيارة القادمة المتولدة من رحم الانتظار.. قدرت أنها تبطئ من اندفاعاتها.. تصلني البشارة، ضوء منبعث منها كومضة البرق.. البرق نذير عذاب وبشير رحمة.. خفت كثيراً ..
تجنح السيارة إلى اليمين فأقفز كالهر إلى جوار كيسي.. الختيار يقف.. السيارة تتوقف..
صوت من داخلها: تعال يا ولد..
أنا الآن ولد رغم كوم سنين القهر فوق رأسي!
أنا.. لا بأس من أكون أنا، المهم الآن مواجهة الموقف..
يا ولد.. صوت السائق يجلجل..
أتسلق إلى النافذة لأرى السائق، للوهلة الأولى تمتلئ النفس هلعاً منه؟ رأس كبيرة، شعر متشعث، عينان، حمراوان تدوران مثل عيني الحرباء، شاربان طويلان متدليان، لحية غير حليقة، وملابس لا تدل على الراحة..
قلت: يا عم، أنا ذاهب إلى العقبة، خذني معك.
قال آمرا والتعب متغلغل في صوته.. هيا ارمي كيسك بالصندوق واركب..
بسرعة فعلت.
وفي هذه اللحظة كان الختيار بجوار السيارة، فصعدت وصعد الختيار.. سأله السائق ولم يجب، رفع صوته ولا حياة لمن تنادي.. برم شفتيه وانطلق بالسيارة.. ثلاثتنا ننظر إلى الأمام وكل واحد منا يعزف على أوتار صمته حكايته مع الزمن والأمل.. تتسلل إلى أنفي رائحة الخمر.. أدركت أن السائق مخمور إلى حد الثمالة فالسيارة تجمح فوق الأرض وكأنها بنت أربع عشرة مع أنها من الرعيل الأول من السيارات وليس لها جيل..
الختيار يحكم ربطة منديله على رأسه، كان قلقاً على المريض منذ استقر على مقعده، غير آبه بنا وكأننا لسنا جيران في عالم واحد.. لامست يدي يد الختيار فالتفت إلي.. سألته: لماذا لا ترد يا عم؟ لكن العم لم يجب، فدقمته بيدي فنطق متسائلاً: ها؟ وأشار إلى أذنيه بأنه لا يسمع، فسألته مؤشرا إلى أين يقصد؟ فأشار إلى العقبة..
فهم السائق الإشارة فترنحت الكلمات من فمه: درب القلعة. وراح يلاعب سيارته مع الطريق على هواه.
أنا الآن أسير حقيقي.. كدت أقهقه.
مشدود وثاقي بين كتلتين آدميتين لا مجال للتفاهم معهما.. مخمور يرى ما أمامنا من وراء عقله، وختيار أطرم انشد إلى جسم السيارة مثل البرغي، ولا يربطه بالمشهد المدهش إلا أنا يحرك يده بين فينة وأخرى ليضعها على النافذة، وينام ويشخر ثم يصحو عند اهتزاز السيارة.. أما السيارة فهي صندوق مهترىء يطل الموت منه بين حين وآخر.
دقمني السائق: تسوق؟
قلت: لا. لأن التراكتور التي سقتها مرة واحدة لم أعدّها تجربة.
جعر: حمار.
التزمت الصمت.
يتثاءب السائق ويقول: أنا أريد أن أنام يا ناس!
قلت في نفسي: مخمور ويريد أن ينام والسيارة تتحرك.. ميتة أسطورية، فأين المفر؟ أكدت: لا مفر.
بدأت الطريق تتصعد.. أنا خائف، خائف جدا .. سيارتنا، كالختيار الذي جاورني، تباطأت سرعتها.. أمسك السائق بيدي ووضعها على مقود السيارة، وأمرني أن أضع رجلي على دعسة الديزل، وفتح الباب من فوره وزحف الى المحرك.. تذكرت التراكتور فتعلقت بمقود السيارة.. أنا أمام مسؤولية مصيرية.. الختيار مستغرق في النوم وشخيره العالي يتمازج مع صوت المحرك.. السيارة تمشي والسائق يواصل عملية الإصلاح.. عاد السائق إلى مقعده وواصل القيادة وكأن شيئا لم يكن!
عيناي مسكونتان بالنعاس وقضم الطريق.. أريد أن أنام ولا أريد، فأحسست بحرارة موجعة تستقر بين جفوني..
صوت انفجار يلحقنا.. حملق السائق بالمرآة الجانبية وقال: أحد الإطارات (اتسهّل..)
هدّأ السرعة وأوقف السيارة ونزل منها وعاين الإطار. مؤخرة السائق تشعرك بالتقزز التام من الحياة.. عاد وواصل السير.. الصمت يطبق من جديد.. انفجار آخر يهز كيان السيارة، ضحكت، فاحتج السائق لماذا تضحك؟ قلة حياء.. كتمت ضحكة أخرى وقلت في نفسي: السيارة ملت منا وقررت إلقاءنا في أحد الأودية.. خاطر مرعب قذفته من نفسي فقال السائق بحدة: والله والله لن تشم الهواء إلا عند «القهوة»..
السيارة في ظني كائن أعرج ينحدر بسرعة مع طريق وعرة والموت يلاحقه..
الختيار مستغرق بالنوم ولا أستبعد أنه يحلم.. رحت ألاحق آخر مساقط أشعة الشمس على الجبال المسننة.. العتمة سريعة الولوج إلى عيوننا.. أضواء السيارة المترجرجة تقيس درجة السكر عند جاري.. وملك الموت مندس معنا في هذه العلبة المخشخشة وأكاد ألمس أصابعه على عنقي وأكاد أصرخ: ها قد اقتربت الساعة.. ربما بعد هذا المنعطف..لا، لا, هناك في فم الوادي.. وحفظت تضاريس الطريق في حصة الموت التي أعيشها..في كل ثانية أنعي نفسي حتى فارقني الحزن.
القهوة المعنية تواجهنا بأضوائها من بعيد، يخف جماح السيارة ويضعف وتقف.. الختيار يستيقظ ويشد يدي, فأفهم أنه يريد النزول.. السائق يلوذ وراء السيارة.. الاثنان يطلقان سيلين فائحين.. ظللت جالسا إلى أن نهرني السائق لأنزل.. أنا رقم أصم في عملية حسابية طرشاء..لا نهاية لها..نزلت..
أصلحنا والسائق إطاري السيارة.. شرب فنجان قهوة راح بعده يتقيأ.. صعد الختيار بعدي.. السائق يقول: الحمد لله..
رمقني بنظرة غريبة وتطاول بنظره إلى الختيار.
قال: أنتم معي من أين؟
ضحكت: نحن معك, منذ ما يزيد على ست ساعات.
قال: صدقني, صدقني لم أركما إلا الآن..
قلت: أنت لم تكن معنا..
قال: أين كنت إذا؟
قلت: شخص آخر يشبهك.
اقتربنا من العقبة.. السيارة مخلوق هادئ.. عند الشلالة أشرت للسائق أن يتوقف.. نزل الختيار. نزلت وأخذت كيسي من صندوق السيارة.. السائق ودود جدا حياني وهو يغادر. التفت حولي..لا أحد في هذه المرحلة من الليل.. حملت كيسي وبلعتني الطريق من جديد.. بدأت أنسى بعضا مما كان.. الميناء أمامي عالم جديد يتراقص الأمل فوقه كالموجات المتتالية.