الحمد الله والصلاة والسلام على عبده ورسوله وآله وصحبه.. وبعد: فإن من نعم الله عزّ وجلّ ومننه التي يجب ألا تنسى في غمرة الأحداث وترادف النعم هذه النعمة التي نتقيلها ونستظل بظلها من وحدة الوطن، واجتماع الكلمة، على هدي من الكتاب والسنّة.
على ذلك قام كيان الدولة في المملكة العربية السعودية منذ عهد الملك المؤسس الملك عبد العزيز -رحمه الله- وعليه تتابع الأبناء الملوك البررة وهذا ما يؤكده الآن أمتع الله بحياته وأطال في عمره خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز الذي ما وجد نقصًا إلا أكمله، ولا فرية إلا سدّها، ولا اعوجاجًا إلا قوّمه.
ترى ذلك واضحًا تحت الشمس في حركة تنموية متسارعة أنظمة ومشروعات يحس بها القريبون ويراها البعيدون وبها استحق خادم الحرمين الشريفين إشادات وشهادات متعاقبة في زمانها، ومتوافقة في مضمونها، ومختلفة من جهاتها.
يقال ذلك والكل يقرأ ما يسطر في الصحف والمجلات بحق التوجيه الذي صدر منه -حفظه الله- لسماحة المفتي العام الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ بخصوص قصر الفتوى على أعضاء هيئة كبار العلماء والرفع عمن فيه الكفاية لهذه المهمة العظيمة.
والحقيقة أنه لعمق مضامين هذا التوجيه الذي يُعدُّ تاريخًا مفصليًا له ما بعده فإن كلّ من كتب عنه من علماء ومفكرين وباحثين ومهتمين كل منهم قد أخذ بناحية منه، وكثف الضوء على بعض جوانبه.
وعلى هذا النسق فإنني أقف مع هذا التوجيه الكريم في جزء يسير منه، لكنه في الحقيقة يُعدُّ أساسًا للتوجيه كلّه وهو الدافع له ذلك هو قوله حفظه الله: (وترتيبًا على ما سبق وأداءً للواجب الشرعي والوطني أرغب إلى سماحتكم قصر الفتوى على أعضاء هيئة كبار العلماء والرفع عمن تجدون فيهم الكفاية.... الخ).
ثم جاء فيه: (دينًا ندين الله به ومسؤولية نضطلع بها) فإن خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله- ما وجّه بهذا التوجيه إلا من واقع مسؤوليته وقيامًا بواجبه إمامًا ووليًا للأمر في هذه البلاد امثتالاً لقول الله عزّ وجلّ {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا} وهذه الآية كما ذكر غير واحد من العلماء هي دستور الحكم الرشيد.
إذن وخادم الحرمين الشريفين يوجه بهذا التوجيه فإنه - حفظه الله- يسوس رعيته بغاية ما يمكن من الإصلاح في هذا الشأن المهم المتعلق بأمر دينهم قبل دنياهم. والسياسة كما يقول ابن عقيل الحنبلي المتوفي سنة 513 هـ رحمه الله: هي ما يكون فعلاً معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد من الفساد وإن لم يضعه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا نزل به وحي، فإن أردت بقولك: إلا ما وافق الشرع أي ما لم يخالف ما نطق به الشرع فصحيح، وإن أردت إلا ما نطق به الشرع فغلط وتغليط للصحابة فقد جرى من الخلفاء الراشدين ما لا يجحده عالم بالسنن).
وإذا كان المطلوب من ولي الأمر أن يسوس رعيته بما يحقق لهم المصلحة في أمور دنياهم كما في القاعدة الشرعية التي تقول: (تصرف الإمام على رعيته منوط بالمصلحة) فإن سياسته بما يحقق لهم المصلحة في أمر دينهم أولى وأحرى. ذلك أن الدنيا سلم للآخرة وما جعلت الدنيا دارًا إلا للامتحان والابتلاء وفي الآخرة للحساب والجزاء وفي هذا المضمون يقول أبو العباس ابن تيمية رحمه الله: (فالمقصود الواجب بالولايات إصلاح دين الخلق الذي متى فاتهم خسروا خسرانًا، مبينًا ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا) وقال أيضًا: (ومتى اهتمت الولاة بإصلاح دين الناس صلح للطائفتين دينهم ودنياهم، وإلا اضطربت الأمور عليهم وملاك ذلك كلّه صلاح النية للرعية وإخلاص الدين كلّه لله، والتوكل عليه). إذا عرف هذا فلا يستغرب هذا التقرير المبكر منذ فجر الإسلام بأن من مهمات ولاه الله الأمر تحديد المفتين وقصر الفتوى عليهم إذا كانت المصلحة تقتضي ذلك ومن ذلك ما رواه ابن سيرين أن عمر رضي الله عنه قال لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه: نبئت أنك تفتي الناس ولست بأمير فول حارَّها من تولى قارَّها. قال الذهبي رحمه الله في السير معلقًا على توجيه عمر يدل على أن مذهب عمر أن يمنع من أفتى بلا إذن.
وعلى هذه الكلمة العمرية تتابع ولاة الأمر المصلحون، والعلماء الراسخون، وقد وصف لنا شيئًا من ذلك الخطيب البغدادي في كتابه الفقيه والمتفقه حين ذكر ما كان جاريًا في عهد بني أمية فقال: (وقد كان الخلفاء من بني أمية ينصبون للفتوى بمكة في أيام الموسم قومًا يعينونهم ويأمرون بألا يستفتى غيرهم) ولم يكتف الخطيب بذلك بل رسم الطريقة المناسبة في اختيار المفتي فقال: (ينبغي لإمام المسلمين أن يتصفح أحوال المفتين، فمن كان يصلح للفتوى أقره عليها، ومن لم يكن من أهلها منعه منها، وتقدم إليه بألا يتعرض لها وأوعده بالعقوبة إن لم ينته عنها).
ولابن الجوزي - وهو من كبار علماء عصره- كلمة مقاربة إذ قال: (وإذا تعين على ولي الأمر منع من لا يحسن التطبب من مداوة المرضى فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنَّة ولم يتفقه في الدين). وليس عصرنا الحاضر بدعًا من تلك العصور، فالدين هو الدين، والناس هم الناس، بل ربما نحن أحوج لعدة اعتبارات ولذلك تقرأ لبعض كبار العلماء المعاصرين تقريرات مشابهة لتقريرات العلماء السابقين، فهذا أحد أعضاء هيئة كبار العلماء الذي توفاه الله من قريب وقد عرف بعمق أبحاثه وإشراقة عباراته الشيخ العالم بكر بن عبد الله أبو زيد رحمه الله يقول: (فيجب على من بسط الله يده أن يقيم سوق الحجر في الفتيا على المتعالمين، فإن الحجر لاستصلاح الأديان أولى من الحجر لاستصلاح الأبدان والأموال، وإن الوالي إذا لم يجعل على الفتيا كبلاً فسيسمع لها طبلاً، وألا يمكن من بذل العلم إلا المتأهل له).
وكما نعرف ونرى فإن الحياة تتطور بشكل سريع وفي كل اتجاه فهي أشبه - كما يقول الفيلسوف الفرنسي برجسون- بقنبلة تنفجر وتذهب شظاياها في كل ناحية وهذا ما يجعلنا أمام تحدٍ كبير ومتجدد لنكون على مستوى المسؤولية بمزيد من التنظيم والترتيب لا سيما في الأمور التي تتعلق بحياة الناس وعلاقاتهم ولا شك أن الفتيا تمس حياة الناس مسًا مباشرًا وعليه فلا يمكن أن تكون كلاً مباحًا لا حمى له ومن هنا جاء التوجيه وكان معه التوفيق ولله الحمد.
أسأل الله تعالى أن يوفق خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز وسمو ولي عهده الأمين وسمو النائب الثاني لما يحب ويرضى والحمد الله رب العالمين.
* الأمين العام لهيئة كبار العلماء