الجزيرة - قبلان محمد الحزيمي
جميلة هي تلك الذكريات والمواقف التي نسمعها من آبائنا كبار السنِّ ممن عاشوا تجارب الحياة المليئة بالكفاح والتضحية في وقت شحت فيه الموارد الاقتصادية وصعب فيه السفر والترحال، فالذكريات الخالدة مع كبار السن لها طعم آخر فهم مدرسة نتعلم منها ويملكون تاريخاً عايشوه بأنفسهم فيجب أن يحفظ وعلى الجيل الحالي الاستفادة والتعلم منه.
وبمناسبة الذكرى الثمانين لتوحيد هذه البلاد نبحر مع أبناء ذلك الجيل المحظوظ الذي ولد وعاش مع ولادة هذه الدولة الفتية بعد توحيدها من مؤسسها الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود -طيب الله ثراه-.
رجل المهمات بنبجان
لقاؤنا الأول مع رجل وصفه زملاؤه في شركة أرامكو والتي عمل بها أكثر من 42 عاماً (برجل المهمات) وهو من أولئك القلة الذين لم تقهرهم الظروف ولم يثنهم ضعف وسائل المواصلات وانعدام وسائل الاتصالات من مواصلة التحدي لتحقيق الذات والمساهمة في بناء الوطن، يقول ضيفنا الشيخ راجس بن محمد (نبجان) الشرافي الدوسري في حديثه مع الجزيرة: في عام 1365هـ سافرت مع أبي وعمي من وادي الدواسر متجهين إلى الرياض على جمل عبر الصحاري والقفار بحثاً عن لقمة العيش وسداد ديون تراكمت على والدي نتيجة قلة الموارد وعدم وجود عمل سوى في الزراعة وتربية المواشي والتي هي مصدر الرزق الوحيد والضئيل في ذلك الوقت، وقد واصلنا المسير ليل نهار لا نتوقف سوى للصلاة وقليل من الراحة، وكنا نقتدي بالنجوم ليلاً وبمعالم الأرض نهاراً ونمشي على الأقدام ولصغر سني كنت أركب تارة و أسير تارة على قدمي، ورغم استتباب الأمن واستقرار الحكم في عهد الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- إلا أننا كنا نحتاط لأنفسنا لأي طارئ للدفاع عن النفس، فالسير في الصحاري له مخاطره ولا شك، وكنا نعتمد في طعامنا على قليل من التمر وعلى الصيد من الأرانب والضبان والجرابيع وإذا لم نجد طعاماً نأكل بعض العشب الصالح للأكل مثل (البقرا والحميض والحوذان والسعدان وغيرها).. وأذكر أننا لم نذق طعم البر خلال فترة سفرنا سوى مرتين فقط، وبعد عشرة أيام وصلنا إلى الرياض، فتوجهنا لقصر الملك عبدالعزيز حيث كانت الضيافة اليومية مفتوحة نهاراً في قصر له يسمى (خريمص) لجميع المواطنين، فكنا نتزود منها وننام في المساجد وكان يشاركنا كثير من الناس في ذلك الوقت وكانت المساجد مزودة بقرب الماء والتمر من المحسنين وأهل الخير وكان الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- يوزع الكثير من المال على المواطنين خلاف ما يسمى حالياً بالشرهة وذلك لسد حاجتهم ولقضاء حوائجهم، وخلال تلك الفترة كنت أعمل في الأعمال التي تناسب سني وفي عام 1368هـ إبان حرب فلسطين وكان المتطوعون يهبون للجهاد وقد شارك معهم اثنان من إخواني حاولت الاشتراك مع المتطوعين ولكن صغر سني حال دون ذلك، وكان شغلي الشاغل هو البحث عن عمل فسمعت بأن هناك شركة تنقب عن البترول عندها توجهت للمنطقة الشرقية وبصحبتي عدد من أبناء قبيلتي على سيارة نقل من نوع (ماك) تابعة للحكومة من الرياض إلى الأحساء وذلك عبر طرق صحراوية ثم من الأحساء ركبنا سيارة (شركة أرامكو) حتى الظهران.. ونتيجة الحرب العالمية الثانية كانت أغلب الأعمال شبه متوقفة، ولكن هيأ الله لنا بعض الأعمال مع بعض المقاولين الذين يعملون في خط الأنابيب (التابلاين) من رأس مشعاب إلى صيدا في لبنان وكان عمري في ذلك الوقت لا يتجاوز 15 عاماً، وفي عام 1950م بدأت العمل في شركة أرامكو بوظيفة عامل وكان الشوق لمسقط الرأس يؤرقني ولكنني أشغلت وقتي بالدراسة مع العمل فتعلمت اللغة الإنجليزية مع دراسة اللغة العربية في محو الأمية حتى حصلت على شهادات عليا وكانت فترة العمل والدراسة تستغرق يومياً أكثر من 16 ساعة متواصلة ومضيت على هذه الحال عدة سنوات، وعندما لاحظ المسؤولون الأمريكان في الشركة في ذلك الوقت اجتهادي وبعض زملائي السعوديين منحتنا الفرصة لحمل بعض المسؤوليات، كما قرروا ابتعاثنا للدراسة في الولايات المتحدة الأمريكية لدراسة عدد من التخصصات الهامة، وكانت بعثتي وبعض زملائي عام 1370هـ وعدت للعمل في قيادة الأمن الصناعي بالشركة، وقد واجهت وزملائي الكثير من الصعاب والمخاطر ومن ذلك أنه في عام 1975م أنفجر أنبوب لغاز (الأمونيا) وتسرب الغاز وأحدث خطره فلم أتردد في الانطلاق نحو موقع التسرب وإغلاق الصمام المؤدي إليه بعد الأخذ بوسائل السلامة، ولكنني لم أصح إلا في المستشفى بعد أن سحبني زملائي بحبل كنت ربطه في وسطي تحسباً لمثل ما حصل، عندها كتبت جريدة أرامكو الأسبوعية خبراً كان عنوانه: (الرجل المناسب في الوقت المناسب في المكان المناسب) كما تعرضنا لمخاطر أخرى منها أن سقطت بنا طائرتنا المروحية الصغيرة من نوع (كوكر) ونحن نقوم بمسح مناطق عملنا وذلك أثناء هبوطها اضطرارياً لعطل أصابها ولكن الله سلم، وغيرها من المخاطر التي لا يتسع المجال هنا لذكرها.
ويضيف الشيخ راجس الدوسري بأن هذه تجربة بسيطة عشناها أنا وجيلي بإصرار وحب وإخلاص وتفانٍ في العمل وخدمة الوطن بعد التسلح بالعلم النافع، وقد منحتنا شركة أرامكو الفرصة لخدمة الوطن، فكنا مواطنين أوفياء مخلصين ولله الحمد، فقد عملنا في البر والبحر والجو وتعرضنا للمخاطر ليل نهار ولم نجعل لظروف البدايات القاسية شماعة نعلق عليها مسببات للتقاعس، بل لو طلب منا نحت الصخر بالأنامل لفعلنا.
ويذكر ضيفنا أنه عاصر بدايات شركة أرامكو والتي بدأت ببئر رقم 7 وهو ما سماه خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز -يحفظه الله- ب(بئر الخير) والذي دشنه الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن -طيب الله ثراه- ثم تتالت من بعده آبار الخير التي ساهمت مساهمة جلية في نمو وتطور مملكتنا الحبيبة ووصولها إلى مصاف الدول العظمى. ويضيف بقوله: حقيقة كان لشركة أرامكو دور فاعل منذ بداياتها في تطوير الإنسان السعودي وتغيير نمط حياته نحو الأفضل خاصة بالمنطقة الشرقية من حيث التعليم حيث فتحت عدد من المدارس آن ذاك وما زالت من أفضل المدارس في الوطن حتى الآن، كما فتحت المستشفيات، وطورت العمل الصحي بالمملكة، ودعمت العمران وتخطيط المدن، بل قامت مدن بسبب شركة أرامكو السعودية ومشاريعها وأعمالها العملاقة في المنطقة الشرقية وخط التابلاين.. ومن تلك المدن الظهران ورأس تنورة والنعيرية والقيصومة ورفحاء وغيرها الكثير.
ويؤكد الشيخ راجس الدوسري زيارات القادة الملوك لشركة أرامكو بدءاً من الملك المؤسس الملك عبدالعزيز -غفر الله له ولوالديه- وأبنائه الملوك سعود وفيصل وخالد وفهد -يرحمهم الله جميعاً- وخادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز -يحفظه الله- كان لها الأثر العظيم في دفع عجلة التقدم والحماس في نفوس العاملين وكان لتوجيهاتهم السديدة دوره الكبير في التخطيط العلمي المدروس لتطوير إنتاج النفط بالمملكة.
ويشير إلى أن ما تشهده بلادنا في هذا العصر الزاهر هو نعمة تستحق الشكر والثناء لله عز وجل ثم الدعاء لمؤسس هذا الكيان العظيم الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود -طيب الله ثراه- وأبنائه الملوك سعود وفيصل وخالد وفهد -رحمهم الله جميعاً- ولخادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز وسمو ولي عهده وسمو النائب الثاني -يحفظهم الله- وكافة أبناء الأسرة المالكة الكريمة، وهي فرصة بأن نهنئ قادتنا وحكامنا بهذه الذكرى الوطنية الخالدة.
شاهد على تطور الرياض
وفي الجانب الآخر يقول الشيخ محمد بن ناصر آل مسن وهو أحد الذين عايشوا بدايات التوحيد إن الفرق بين شقاء العيش قبل 80 عاماً ورغده اليوم وطناً ينعم بالأمن والاستقرار والرفاه، فقد عاركت مع منهم في جيلي الحياة من أجل المساهمة في بناء هذا الكيان مع الموحد الملك عبدالعزيز -رحمه الله- محبة فيه، حيث بث في الأمة القيم والثوابت التي تنبع من شريعتنا الإسلامية.
ويضيف الشيخ محمد لقد عملت في قصر الملك خالد قبل أن يصبح ولياً للعهد وتعاملت من خلاله مع إخوته سعود وفيصل وقد كانوا يسيرون على نهج والدهم المؤسس في التعامل مع المواطنين. فقد كان الملك خالد -يرحمه الله- دائم السؤال عن أحوالنا نحن العاملين في قصره ومزرعته، وكان يوصينا بأهلنا خيراً ويمدنا بما نساعدهم به لمواجهة شظف العيش ومواجهة متطلبات الحياة.
وعن ذكرياته عن مدينة الرياض يقول: دخلت مدينة الرياض في طور جديد منذ أن استعادها الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن -طيب الله ثراه-، فأصبحت قاعدة للملك، وبدأت في الاتساع، وقويت فيها حركة العمران، ودخلتها وسائل الحضارة الحديثة، وكثرت فيها القصور المشيدة المجهزة، وزاد سكانها، فأعيد تخطيطها حتى أصبحت تشمل مساحة واسعة من الأرض.
ويضيف كانت الرياض إلى سنة 1360هـ لا يستعمل فيها للبناء غير الطين واللبن وتستعمل الحجارة نادراً، وكانت طرق البناء لا تسير على نظام معين أو طريقة مرسومة، ولهذه كثرت فيها الشوارع الضيقة، والأزقة المتعرجة التي لا تتسع إلا لسير الأقدام، مع تسقيفها، والحيلولة دون انتشار النور، أو نفوذ الشمس، والبيت فيها عبارة عن بناء يتكون غالباً من بضع حجر من دور أو دورين أحدهما أرضي وأبرز ما يحتوي عليه مكان لاستقبال الضيوف ويسمى إن كان في الدور الأرضي (مجلس) وإن كان في الدور الثاني يسمى (روشن) وتقل النوافذ وتنعدم في بعض البيوت.
ويضيف الشيخ محمد آل مسن فيقول: كانت مدينة الرياض محاطة بسور مبني من الطين واللبن، أقامه الملك عبدالعزيز واستغرقت مدة بنائه أربعين يوماً وفيه أبواب المدينة في جوانبها فمن الشرق باب الثميري، ومن الشمال باب آل سويلم، ومن الجنوب باب دخنه، ومن الغرب باب المذبح، ومن الجنوب الغربي باب الشميسي، وفي منتصف القرن الماضي بدأ العمران في الرياض خارج أسوارها، بسبب ازدياد السكان، وتطور الحياة فيها، فأنشئ قصر المربع في الجهة الشمالية، وقد سمي بهذا الاسم لإحاطته بأبراج مربعة الشكل، وقد بني من الطين واللبن واتخذه الإمام المغفور له الملك عبدالعزيز مقراً لسكناه، وبقي القصر القديم الذي شيد في عهده مخصصاً لاستقبال الوافدين والضيوف، وفي عام 1370هـ أزيل السور الذي كان يحيط بالمدينة نظراً لاتساعها وبناء محلات جديدة خارجه، وبعد أن أنشئت أمانة مدينة الرياض وأسندت رئاستها إلى رجل حازم من الأسرة الكريمة وهو الأمير فهد الفيصل قامت في المدينة حركة عمرانية عظيمة، شملت جميع المرافق العامة، وخططت مدينة الرياض تخطيطاً جديداً بشق الشوارع الواسعة، وإقامة الميادين الفسيحة، وتجميل المدينة بالحدائق، وتشجير شوارعها وميادينها.
وعن وادي الدواسر في ذلك الوقت يقول كانت بلدة صغيرة بها قرى متناثرة يعيش فيها أهلها ببساطة كان الأمن الذي أرساه لهم المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود كافياً ليجعلهم يعيشون بطمأنينة وسلام وكان الناس ولا زالوا ولله الحمد متعلقين بولاة الأمر يدعون لهم دائماً بالتوفيق والنصر.
وتمتاز المحافظة في ذلك الحين بالتجارة البسيطة في التمور والأغنام والإبل ومنتجاته، ولم تكن بها سيارات ولا كهرباء ولا طرق معبدة، ولكن لم تمر سنوات تًعد على أصابع اليد الواحدة حتى عم الخير والنماء كل أقطار المملكة على يد أبنائه البررة الذين ساروا على نهجه القويم والطريق المستقيم متخذين من العقيدة الإسلامية عموداً يرفعون به دولتهم، وسياجاً يحمون به عقول أبنائهم وأبناء المسلمين، وقوة يدافعون بها عن بلادهم ومقدساتهم.