العالم ليس في حاجة إلى متعلمين فقط، لكنه في حاجة إلى متعلمين عاملين، والذين عملوا فيما مضى في عصر إنسان الغاب استطاعوا أن يعيشوا ويخلفوا أجيالاً، ربما لم يكونوا في رغد من العيش، ولم يكن عمرهم مديداً، لكنهم عاشوا وخلفوا حتى جاء عصرنا الحاضر، وما نحن إلا أبناء أولئك الذين عملوا ولم يتعلموا، وفي معظم بقاع الجزيرة العربية كانت الموارد الطبيعية نادرة، وكان البدو يتنقلون من مكان إلى مكان طلباً للماء والكلأ، يحلون ويرحلون ويحطون رحالهم أينما وجدوا ما يسد رمقهم، وربما يغزون ويتقاتلون، والحضر يحفرون الآبار ويزرعون النخل والأعلاف والحنطة؛ ليوفروا ما يكفيهم للاستمرار في هذه الحياة التي خلقنا الله لعبادته فيها، وأمرنا بأن نعمرها بالعمل والخير. ولن أتتبع مراحل تطوُّر العمل لدى الإنسان ومقدرته على الانتقال من مرحلة إلى أخرى، مثل الصيد، ثم الزراعة باستخدام الأيدي، ثم الحيوانات، ومن بعدها الآلات البسيطة، ثم ما نراه الآن.
لكن ما هو واقع الآن أن أساليب الإنتاج أوجدت أساليب عمل مصاحبة؛ فيمكن أن يهدي العالم اختراعاً يكفينا عناء آلاف الساعات من العمل، فالكهرباء والهاتف والقطار والتلفاز والكمبيوتر جميعها أُهديت من قِبل مجموعة من المخترعين والعاملين المهرة لهذا العالم الفسيح.
وعالمنا العربي في وقتنا الحاضر مساهماته في هذا المجال محدودة، وماذا لو نضبت أو تم الاستغناء عن بعض الموارد الطبيعية التي يقتات من بيعها الإنسان العربي، هل سيعود عاملاً منتجاً بالنمط السابق مستخدماً قوته الجسدية في إطعام نفسه، أم أنه سيركن إلى الراحة فتصيبه الفاقة كما يحدث في بعض الدول رغم توافر الموارد الطبيعية لديها، أم أنه سيمتطي صهوة جواد العلم والعمل ليشارك في الاختراع والاستفادة من المخترع.
فيما يبدو أن ثقافة العمل والعلم الموصل للنتيجة المرجوة ليست سائدة، وإن كانت متاحة تتناقلها الألسن، ويؤكد على وجودها الكثير ممن يستهويهم التنميق والإشادة، ولا نريد لعالمنا العربي أن يكون كما قال الشاعر:
أصبحت صفراً يدي مما تجود به ما أعجب القدر المقدور في رجب ذل وفقر أزالا عزة وغنى نعمى الليالي من البلوى على كثب والزمن ليس لئيم طبع، وليس له اعتداء على البشر، لكنهم في الغالب يدفعون ثمن ما يفعلون (وما ربك بظلام للعبيد)؛ لذا فإن المعتمد بن عباد عندما قال قصيدته التي منها البيت الآتي:
ولكن الزمان بلؤم طبع على الحر الشريف له اعتداء مخطئ لأنه رأى النتيجة ولم يلتفت إلى السبب، فلو أن أهل زمانه عملوا لكان حالهم أفضل ولما نعتوا الزمان بلؤم الطبع والاعتداء.
والحاضر لم يعتدِ علينا، وما زال كريماً مع عالمنا العربي، لكنه كرم ربما لا يطول، وهل لنا أن نستفيد من كرمه طالما أنه قد أغدق على عالمنا كرماً حاتمياً، ربما ينكف ويعود أدراجه في أي لحظة ليتركنا وشأننا، فيكون خيارنا الفاقة أو العمل مع العلم؛ لأن العمل مفرداً لم يعد صالحاً لزماننا، والأسوأ منه العلم دون العمل؛ لأن ذلك يكثر من المثقفين الذين لا يعملون؛ فيكثر اللجاج، والوهم، والتجميل.. والواقع خلاف ذلك.
ولن ننتظر حتى يقول شاعرنا:
في كل يوم غريب فيه معتبر تلقاه أو يتلقانا به خبر الأمة في حاجة إلى العمل، وبه وحده تعيش الشعوب، وهو الأساس والقاعدة، أما العلم فهو المسير والمساعد والناصح والموجه؛ فعلينا أن نعمل أكثر مما نتكلم، ونفعل أكثر مما نقول؛ حتى نكون قادرين في زمن الرخاء استعداداً لعصر الشدة.
|