لم تتخذ المملكة هذا اليوم، كما يظنّه بعضهم عيداً لأن قادتها يطبّقون شرع الله، منذ توحّدتْ أجزاء البلاد، في وحدة وطنية، منهجها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ودستورها القرآن الكريم، وسداها ولحمتها: المحبّة والألفة
ونبذ الأعراف القبليّة ولا أعياد عندهم إلا ما أجازه الشّرع الحنيف: عيد الفطر وعيد الأضحى، والعرب في جاهليّتهم وإسلامهم لهم أيام يتذكرون فيها أمجادهم.
ومطلع شهر الميزان من كلّ عام، يذكّر ببداية الإشراق، مع تاريخ مضيء، انقشعتْ معه الظَّلمة التي رانت على الجزيرة العربية رِدْحاً من الزّمن، وليس ذلك في تاريخ المملكة، بل شمل الضياء تاريخ العرب الحديث.
إذْ كان العرب يتطلّعون ليوم تجتمع فيه كلمتهم، ويتوحّد شملهم، فأمّلوا في الجزيرة العربية نبراساً يستضاء به لأنّها موطن الإشعاع الأول، حين انطلقتْ المحافل لنشر دين الله، فكانت الفاتحة بغزوة بدر الكبرى، في رمضان، فانتصر الحق على الباطل، ونصر الله رسوله الكريم، وأذلّ الشّرك وأعوانه، بقتل جبابرة الشّرك في يوم 17 رمضان السنة الثانية من الهجرة.
ثم تلا ذلك الفتوحات العديدة، التي بها ارتفعت راية الإسلام في أرجاء المعمور من الأرض، وقد ساق الله البشارة لرسوله صلى الله عليه وسلم، والفئة المؤمنة معه، لما يلي بدر من همةٍ إسلامّية، في نشر دين الله وإنقاذ البشرية، من مهاوي الشرّك بقوله تعالى: (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا) (27) سورة الفتح.
حيث أعز الله دينه ، ونصر أولياءه، وهي سنّة الله الخالدة، بإعزاز دينه ونصر أوليائه إذْ أخلصوا لله.
والجزيرة في نومها العميق، والفوضى مع تسلط الأعداء الذي استمر ردحاً من الزمن، قد هيأ الله لها: بطلاً أيقظها من السبّات العميق، ليوحّد الله به القلوب، وتجتمع بقيادته الأمة، فأحبّته الأفئدة، والتفّتْ وراءه الجماهير، رغبة في جمع الشمل، بوحدة وطنية، محورها نبذ الفرقة، وتأصيل الولاء والمحبّة، والبعد عن التنابز والعداوات، فلمّ الشملّ في وحدة وطنيّة وبمسيرة في صفوف متراصة، خلف قائد مخلص هو الملك عبدالعزيز - رحمه الله-.
حماسة لدين الله، وخدمة للحرمين الشريفين، حيث أعاد الله، بجهده ونيته المخلصة، رونق الإسلام، الذي يحث على الترابط والمحبة والتآلف فالله هو الذي: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (63) سورة الأنفال.
فقد جدّ واجتهد متأسياً بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وآخذاً بسنته في التطبيق والعمل.
ثم أعلن بعد ذلك الملِك، ميثاق الوحدة واسم الحكومة الذي ارتضاه الشعب، بعد التشاور والتداول في رمضان عام 1350هـ وقد وفدوا عليه في الطّائف، ذلك الوقت مع مسيرة الألفة، والبدء بتنظيم الدولة الفتيّة، المتباعدة الأطراف وهم ثلة من المواطنين مقترحين إطلاق اسم شامل على هذه الدولة، يجمع ولا يفرّق ويعبّر عن الوحدة الوطنية وتضامن الشعب مع القيادة، ومقدرين للقائد الباقي، جهوده في جمع الشمل، ومقترحين على عظمة السلطان مع اعترافهم بالفضل لذوي الفضل، ومن تحقّقتْ الوحدة على يديه، وبجهوده المضنية، ليكون في ذلك ربط بالدور الكبير الذي بذله رحمه الله حتى اكتمل البنيان، الذي أرادوا له التصاقاً واعترافاً، بمكانة العمل مع القائد، وتقديراً لإخلاصه.
فكان هذا الاقتراح الذي حمله، الوفد تلك السّنة، نبذ المسميات السابقة التي كانت تتغير مع المسيرة، ولا تتفق مع المكانة الجديدة للدولة التي استتبّ أمنها، وبدأت بالتنظيم الحديث هو: (المملكة العربية السعودية).
وحتى لا يكون هذا اليوم، مربوطاً بالتاريخ الميلادي، الأفرنجي، فقد اُعتبر من أول شهر الميزان، ليكون هجرياً شمسياً لأن تذكره في كل عام، يتزامن مع الأيام المشرقة في تاريخ الجزيرة العربية، حيث توالى في هذا الشهر وما بعده: إصدار الأنظمة العديدة التي تُعْطي مؤشر الاستقرار والدّيمومة: كنظام ولاية العهد، ووصية الملك لأولاده، ولسمو ولي العهد سعود وغيرها مما يحمي به الله البلاد، من النزاعات والتشتتْ، ليحل بدلها، المحبة والألفة والاعتصام بحبل الله وتطبيق نظام الشورى.
إلى جانب خصال عديدة نمّاها الملك عبدالعزيز، وقواعد ثبّتها في البلاد: أمناً وتعليماً واهتماماً بجميع المرافق بنظرته الثاقبة، وإيمانه القوي بربه: فاتحدت الصفوف، وراء قيادته بعدما أمات العنصريّات القبلية، والنّعرات الأسرّية، آخذاً بالحديث: (إن اكرمكم عند الله أتقاكم - ولا فرق لعربي على أعجميّ إلاّ بالتقوى)، ليتجه الجميع للبناء والعلم والتّعمير، نابذين الجهل والعادات التي عفى عليها الزمن، ومن ثم لاحقين بركب الحضارة والأخذ بكل جديد منها مفيد، ونهج أبناؤه - فارساً بعد فارس- على الدرب الذي رسمه، والمعالم التي أرسى قواعدها.
وإن من نعمة الله التي أفاء بها علينا، شكره على الفضائل التي تّمتْ، واستذكارها في مثل هذا اليوم: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} (11) سورة الضحى.
حيث تبرز بشائر الفرحة، على الوجوه، بعد ظهور الثّمار في كل مكان، فاتحدت المسيرة، خلف القائد الباني، ثم خلف أبنائه كبيراً بعد كبير للنهوض بالبلاد، والتّعاون بالعمل الجادّ للارتقاء، بعدما سخّر ولاة الأمر ما أفاء الله على البلاد من خيرات لمصلحة الوطن والمواطن، سلاحهم العمل، ودافعهم التشجيع بما يسّر لهم من معالم وتخطيط، وبالتّعليم المتاح للجميع فيه:
العلم يرفع بيتا لا عماد له والجهل يهدم بيت العزّ والشرف فكانت تلك السنة 1350هـ التي أُعْلِنَ فيها توحيد البلاد بأطرافها المتباعدة، وإجابة المواطنين في مقترحهم، بالتسمية الجديدة، وماذا تعني: (المملكة العربية السعودية) وصدور الأنظمة والقرارات التي تعتبر أسساً للبناء والعمل، وغيرها من أمور تاريخية كلها، تعتبر نافذة إشراق بالأمن والعمل لأول مرة على هذه البلاد، مع صدق النية والهمّة في العمل، ففتح الله على الدولة خزائن الأرض، ثم تتالت الخيرات التي سخّرها ولاة الأمر للإعمار والرّقي، فتزايدت المرافق الائتمانية، وتكاثرتْ المشروعات في المدن والقرى.
وكان الهاجس الأول البدء بإعمار الحرمين الشريفين، التي بلغت أرقاماً قياسية، في الإنفاق والعمارة والسّعة والاستيعاب، لملايين المسلمين، وكل من اعتَلاَ سدّة الحكم زاد وبذل، وذلّل الصّعاب، وقهر العقبات المعترضة لضيوف الرحمن الذين بلغت أرقامهم سنوياً الملايين، مع فتح القلوب لهم، وتيسير الخدمات وجميع المتطلبات، ابتغاءّ لوجه الله ورضوانه.
ملوك تتابعوا يتنافسون في خدمة بيت الله الحرام، والاهتمام بالحرمين الشريفين، والترحيب بضيوف الرحمن: حجاجاً وعُمّاراً وزائرين، على خطى والدهم رحمه الله في خدمة الحرمين الشريفين والوافدين عليهما من كل جانب ولسان حالهم مع الشاعر بقوله:
يا ضيفنا لو جئتنا لوجدتنا نحن الضيوف وأنت ربّ المنزل ومن توفيق الله تم ترابط المواطن مع القيادة، تحوّلتْ البلاد إلى وحدة قلبيّة، ونبذت الفوارق، وورشة عمل، كل يساهم في ميدانه وفق التوجيهات، والأنظمة المشروعة المرسومة بطاقته، فاندمجت البداوة مع الحضارة، وتنافس الجميع في العمل الشريف، للارتقاء بالبلاد إلى مصافّ الدول التي سبقتنا علمياً واقتصادياً واجتماعياً، بل بحمد الله تفوقنا في بعض الميادين، واستفاد أبناؤنا من الدول التي درسوا فيها، ببعثات ميسّرة، ولا ضير في ذلك: فالأفراد والشعوب يستفيد بعضهم من بعض، وقديماً كان علماء الإسلام يقولون: هم رجال ونحن رجال، ولهم عقول ولنا عقول.
لكن الفرق في الاستفادة: هو استثمار تلك الاستفادة، وتوظيفها في قالب: ينفع وتطويره بالعائد على البلاد وأهلها بما لا يضر بالقيم التي رسخت فيها: دينياً واجتماعياً، ومع أن بلادنا بدأت في مجالات التنمية، والبنية التحتية، من خانة الصفر. إلا أنها ومن توفيق الله دخلت مضمار التنافس بما أتيح من فرص وعلم ميسّر، مع غيرها: علمياً وصحياً واقتصادياً وإدارياً وفنياً، فحازت بالقيادة الحكيمة، والسياسة الرصينة: السبق الذي برز في نواحٍ منها: العلم، والتسابق في ميدانه حيث تكاثرت الجامعات ودور العلم، وبرز فيها: البحث وملايين الطالبات والطّلاب، ومراكز البحث والاستقرار الاقتصادي وغير هذا كثير في تنافس شريف مستمد من التشجيع والفرص المتاحة، وحسن التوجيه، والدّعم من ولاة الأمور.
فيحقّ لكل مواطن عندنا أن يشيد بمرور هذه المناسبة، شكراً لله، ويدعو للقائد المؤسس بالرحمة والمغفرة لأنها: توحدتْ بها البلاد بعد فرقة، وتصافت القلوب بعد نفرة، واستتبّ الأمن بعد خوف، وتبدّلت البغضاء إلى مودة واندماج بأخوة صادقة، فكانوا بنعمة الله إخواناً، فهي مناسبة فيها تذكار يستحقّ لكل فرد أن يشكر الله عليها، وتستحقَ الوقوف بتأمل، لأنّ بالضدّ يبرز الضّد.
|