أعجبني مقال كتبه «جميل مطر» بعنوان «الغباء» ونشر قبل أشهر في جريدة الخليج الإماراتية، اعتبر فيه أن «من الخطأ العميق أن نصدق أن نسبة الأغبياء في مجتمع متخلف أكثر من نسبتهم في مجتمع متقدم. كلا المجتمعين يحوي النسبة نفسها من الأغبياء. الفرق بين المجتمعين هو في أن الأغبياء في المجتمع المتخلف يسمح لهم الأعضاء الآخرون في المجتمع بأن يمارسوا نشاطاً أكبر وأن يعملوا أكثر». ولا أدري كيف قفزت إلى ذاكرتي، وأنا أقرأ فلسفة جميل مطر، صورة الكوب المملوء نصفه بالماء، فلا يرى المتشائمون منه سوى النصف الفارغ بينما ينظر المتفائلون إلى النصف الممتلئ. ورغم أن كلتا النظرتين صحيحتين، إلاّ أن مدلول الأولى يختلف عن الثانية. ويجسد هذا الاختلاف المسافة الكبيرة بين نقيضين، أو بين الإحباط والأمل تحديداً. قد ينتهي الإحباط إلى معول هدم وقد يرتقي الأمل إلى سلم بناء. وهكذا الحال مع الغباء ونقيضه الذكاء. فالتركيز على حالات الغباء قد يؤدي إلى الشعور بالإحباط في حين قد يسهم التركيز على الذكاء في خلق فسحة من التفاؤل والأمل. إن الغباء والذكاء من السمات الإنسانية التي يتقاسمها الناس بنسب متفاوتة. إن الأصل في الأشياء، والإنسان شيء، سعيها إلى الكمال. والكمال مفهوم نسبي، فالكمال التام لله عزَّ وجل وحده. ولكن الله خلق كل شيء وأحسن خلقه. ولهذا يغلب الذكاء الغباء، أو يكون الذكاء الأصل والغباء الاستثناء. والعبرة دائماً بالأصل. وإفرازات الذكاء، والغباء بالضرورة، هي انصهار عطاء الفرد في بوتقة المجتمع. والحكم في النهاية يكون على النتائج، والنتائج مردود جماعي متكامل. ولا يمكن أن يكون ذكاء الفرد أفضل من ذكاء الكل. واليد الواحدة لا تصفق، كما يتفق على ذلك المثل مع المنطق، والناس في مجموعهم قوة يحتمي الضعيف منهم بالقوي، ويتوارى الغبي خلف إبداع الذكي، ويكون الذكاء سيداً للموقف في الأجل الطويل. وإذا كان الإبداع هو التوقف المفاجئ عن الغباء، كما نقل جميل مطر في مقاله عن إدوين لاند، فإن غاية الفكر السوي، في نظري، هو الإبداع. والإبداع هو إضافة إيجابية إلى الحال الواقع. وهو في عرف أهل الاقتصاد قيمة مضافة تدل على الإنتاج وتقوم على أساسه مؤشرات النمو ودلالاته. ويتطلب الإبداع الخروج من مأزق الشائع وما اعتاد عليه عامة الناس، ويستوجب اتباع نهج تطوري يتجاوز الرتابة في حياتهم. والإبداع هو نتاج الذكاء. وقد يكون الإبداع موهبة حظيت بها قلة من الناس، لكنه في أغلب الأوقات يكون نتيجة لتراكمات جماعية تتعدى الجهود والقدرات الفردية. وعلى المرء أن يتذكر دائماً مقولة «أن توقد شمعة خير لك من أن تلعن الظلام»، وأن يدرك أنَّ إزكاء مفهوم الذكاء خير من الغوص في وحل الغباء. تفاءلوا بالخير تجدوه.
(*) رئيس دار الدراسات الاقتصادية – الرياض |
|
شذرات اقتصادية الإبداع.. قيمة مضافة عبدالعزيز إسماعيل داغستاني |
|