لا يخلو مجتمع غربي ولا شرقي، متطور أو متخلف، من مهووسين بنظريات المؤامرة. فهو مرض نفسي عصري - سببه متغيرات القرن الماضي الهائلة- يحمل صاحبه على الشك فيما حوله من معطيات ومتغيرات. وبما أن هؤلاء مرضى وسوسة فلا فكر لهم مستقل، لذا فهم عادة ما يبحثون في مخلفات التاريخ عن أطروحات فكرية -خيرة أو شريرة- أبدعها سياسيون في فترة من الزمن لتخدم مصالح سياسية أو اقتصادية أو قومية أو عرقية. وبزوال الحقبة الزمنية المعاصرة لهذه الأطروحات، ينتهي دورها وتُلقى في سلة مهملات التاريخ، حتى يأتي من به مس من خبال فيقتات من هذه الزُبالات فتفوح رائحته الكريهة على من حوله وقد يتقيأ أحيانا قيحا وصديدا فيؤذي مجتمعه أذى ماديا، ومؤامرات التغريب -في غالبها- هي من ملفات التاريخ التي ظهر فينا مؤخرا من أكثر من اقتياته عليها.
مؤامرات التغريب هي أطروحات فكرية ظهرت في عالمنا الإسلامي في حقبة بدايات انهيار الدولة العثمانية المريضة، واستعر نارها أبان حقبة الاستعمار الغربي وحروب التحرير. وقد كانت سلاحا دفاعيا هجوميا فعالا في تلك الحقبة من الزمن، ثم ما لبثت أن تلقفها القوميون العرب ردحا من الزمن، ثم حطت رحالها أخيرا في جعبة الإسلام السياسي الذي وصل ذروته في أوائل التسعينات في بلادنا على إيقاعات حرب الخليج، حتى اكتشف منظروه أنهم خارج الزمن وأنهم يرمون بسهام بالية في جسد الثقافة العالمية الحديثة فما أصابوا منها مقتلا ولا أدموا لها جرحا، فعاد الأذكياء المخلصون من هؤلاء إلى رشدهم فألقوا بهذه الأطروحات البالية التي تعداها الزمن في سلة مخلفات التاريخ، ونهضوا مع قومهم بعد أن ضمدوا جراحاتهم وجبروا كسورهم في بناء بلادهم ومجتمعاتهم، وعفا الله عما سلف.
ومؤخراً أكثر بعض الموسوسين من الإفطار على هذه المخلفات فقاء قيحاً وصديداً بكتابات ما هي إلا قطع ولصق للمخلفات أطروحات القوميين العرب في الستينات والإسلاميين السياسيين في التسعينات فأعجبت جُرأتها وغرابتها قلة من شبابنا الغر الذي لم يعش التسعينات ولم يقرأ عن الستينات.
يضرب هؤلاء على وتر خيرية واجتباء الله لهذه الأمة، أمة الإسلام، وهو حق حرفوا معناه ومقصده. فخيرية هذه الأمة في عقيدتها ودينها لا في تخلفها وضعفها وفقرها الذي ما أتانا إلا من الجمود الفكري بحجة مقاومة التغريب. وترى هؤلاء يستخفون بعقول قرائهم من الشباب الغر ومن ذوي قصر اليد فيزعمون تأييدهم لبناء اقتصاد البلاد ثم ينكصون على أعقابهم فيعودون إلى وساوسهم الفكرية فيتخيلون مشروعا تغريبيا مندسا بين طيات التنمية الاقتصادية، وهذا من جهلهم وخبثهم على حد سواء. فالاقتصاد لا يقوم وحده، بل هو يعمل ضمن منظومة الثقافة بمفهومها الشامل الذي يتضمن النواحي السياسية والاجتماعية والتعليمية والقانونية في توازن متكامل، واختلال أحدها اختلالٌ لجميعها. وهذا ليس كلاما نظريا أو خارج عن بيئتنا المحلية، فقد عاشت البلاد عقودا من الزمن فُصل فيها الاقتصاد عن منظومته الثقافية الشاملة التي يدور فيها فكان ذلك على حساب ثروات النفط التي اُستهلكت ولم يُستفد مما أتت به، وخلفت لنا مشاكل وعورات في منظومتنا الثقافية جميعها، والتي يعمل الملك القوي الأمين على تشكيلها من جديد لتكون -بأمر من الله- تاجا على رأس جسد الثقافة العالمية الحديثة.
الفتنة نائمة، ألا لعنة الله على من أيقظها، ودائما ما تجد هؤلاء المقتاتين على مخلفات التاريخ يراهنون على وقوع الفتن ويختمون بتمني حدوثها أراجيفهم. ولا عجب، ففي الفتن يكثر الهرج والمرج فتنتشي بها أفئدة هؤلاء الموسوسين، وفي الفتن يضيع العقل ويحكم الباطل، فيجد أمثال هؤلاء بُغيتهم في التلاعب بمجتمعاتهم ليُبهجوا أنفسهم المريضة برؤية الدمار والخراب.
إنه مما يجب أن لا يسكت عنه هنا، أن ضمان الحريات الفكرية هي من أهم عوامل بناء الثقافة السامية المنتجة بمفهومها الشامل ومن ضمنها الاقتصاد، وأن أمثال هؤلاء لا يخلو منهم مجتمع غربي ولا شرقي، وقد نجحت كثير من المجتمعات المتطورة بتهميشهم وتحجير ضررهم وإفشال مخططاتهم بعدم التعرض لهم وتجاهلهم -طالما لم تمتد أقوالهم إلى أفعال أو تنظيمات-، فأصبحوا غُربان شؤم ينعقون في الخرابات الفكرية التي يسكنونها حتى أسدل الليل عليهم وعلى نعيقهم وأشرق الصباح وقد تخطى القوم نعيق المتشائمين ووسوسة الموسوسين.
hamzaalsalem@gmail.com
|
|
المسكوت عنه المقتاتون على مخلفات التاريخ د. حمزة بن محمد السالم |
|