ما من كاتب مسكونٌ بعشق القلم ومفتونٌ بهاجس توظيفه للشأن العام، إلا ويؤرقه هاجس (التقييم) والمراجعة لأدائه، وما إذا كان هذا القلم قد شطَّ به أو انحرف مرةً أو مرات عن مسار الحق والحقيقة والعدل فيما طرح.
ويتّحد مع هذا السؤال سؤالٌ آخر أهم وأعمّ وأكثر إيلامًا، وهو: لماذا يكتب الكاتب؟ أللشهرة استعراضًا تسيّره العشوائية، ويختلط فيه القول الحق بالباطل، والسليم بالسقيم، والقويّ بالتافه، أم أنه يكتب للمشاركة اجتهادًا بما يعلم ويرى حول بعض الشؤون والشجون، الخاص منها والعام؟!
إنني كثيرًا ما أقرأ أو أسمع تعليقات حول هذا الموضوع، بعضها يثّبط العزم إلى درجة الإحباط، والبعض الآخر يشدّ الأزرَ، ويستفزّ القلمَ طلبًا للمزيد، لكنني لم أعثر بعد على ردّ أو تعليق يُعتقُ خاطري من مرارة ذاك السؤال وإيلامه، ويمنحني قناعةً تشدّني إلى الكتابة أو تصرفني عن الرد عليه!
سأتعامل مع السؤال آنف الذكر في ضوء الفرضية التالية: إن كانت الغايةُ من الكتابة تجسيدَ رغبةِ صاحبها في اقتحام ساحة الشهرة فحسب دون أي اعتبار آخر، فأوْلى له ثم أوْلى أن يُعيدَ قلمَه إلى غِمده، أو يكسرَه، أو يقذفَ به في عرض البحر، لأسباب عديدة منها:
أولاً:
إن (صناعة) الكلمة موقف ومسؤولية، وليست جرسًا يقرع به صاحبه الأسماعَ أو قبسًا يستنْفر عبَره الأبصار!
ثانيًا:
إن الشهرةَ ليست غايةً تشدُّ إليها الرحال، بل محصلة تلقائية لموهبة الإبداع في فن من الفنون، هنا، تسعى الشهرة إلى صاحب العطاء الفذ سعيًا، وحين قال المتنبي رائعته: (أنام ملء جفوني عن شواردها)، لم يكن يبتغي الشهرة، لأنها كانت تسابق الريح إليه، ولأن قصيدة كهذه وغيرها جعلت السلف والخلف، مثقفين ونقادًا، يلوُون الأعناق إليه إعجابًا به وتقديرًا، فصار (مشهورًا) رغم أنفه، ورغم كل الظروف التي كيفت القصيدة مناسبة ومضمونًا، وحين صاغ (بيتهوفن) سيمفونياته التسع وسواها، لم يكن يسعى إلى الشهرة، بل هي التي سعت إليه بعد أن غزا نغمُه الآفاقَ!
وفي هذا السياق أزعم أنه لو أدرك الناس بأسَ الكلمة ودلاَلاتِها، مقروءةً أو مسموعةً، لتردَّدوا كثيرًا في كتابتها، لأن نتيجة ذلك لا تخلو أن تكون واحدًا من ثلاثة أمور:
- فإما أدانت صاحبها إدانةً تُنزلُه درك الحضيض!
- وإما سمَتْ به سموًّا يؤهّله لواحة الخلود!
- وإما انصرف الناس عنه، لا حبًا ولا كرهًا، فكان كالزَّبَد يذهب جفاءً!
وبعد..،
فإنّ الكتابةَ عندي عشقٌ ليس كمثله عشق، أشْقَى به وأنْعمُ في آن، ولو لم تكن الكتابة كذلك، وما نازعتني إليها نفسي.. ولا كَلفُ بها خاطري!
وهي موقف قبل أن تكون مصاحبةً للحرف!
وهي صراط أنقل عبّره هاتف النفس عندما يوقظها هاجس الحب لهذا الوطن: كيانًا وإنسانًا وقضايا!
وهي، أولاً وأخيرًا، مسؤولية تُعلق بزمام الذمة، فإما أن يكون فاعلها أهلاً لها أو فليدع الفرصة لغيره، فالصمت هنا موقف وحكمة، وهو قول فصل يقصر دونه كل بيان!!
نجوى أم!
كتبت مرة أناجي طيف أمي التي رحلت قبل سنين إلى دنيا الخلود بإذن الله، فقلت:
مرةً أخرى، يخونُني اللفظُ، ويتمرّد عليَّ القلم، وتتعثر في صدري آهةُ الكلام عنكِ يا بلسم الحنان! لماذا؟
هل لأن المشاعر اختلفت عمّا كانت عليه بالأمس أو قبل حين؟!
لا.. وألف لا!
هل لأنني شُخْتُ.. وشاخت المشاعر في ضلوعي؟!
لا.. وألف لا!
أم أنه الحنين إليك رغم قربك البعيد، أو بعدك القريب، قد فاض به الخاطر، فاستعصى عليه الكلام.. أو استعصى هو على الكلام؟!
ورغم ذلك كلّه، ما برحتُ أتوسد طيفَك يا أمي، كلما أمسيت واصطحبه كلّما أصبحت، وأصلي في خشوع خافت، أو خفوت خاشع.. داعيًا ربي ألا أفقد (وسادتي)! أن تبقى تعانق دمعي متى حزنت، وتحتضن ابتسامتي متى فرحت، وتبلسمُ جرحي.. متى أصابني من وصب الدنيا ونصبها ما يصيب!
رحمك الله وجميع أمهات المؤمنين!
|
|
الرئة الثالثة ألم الكتابة.. ونجوى أم! عبد الرحمن بن محمد السدحان |
|