من الصعب، إن لم يكن من المستحيل جمع قلوب الناس قسراً على الإخلاص لوطن واحد تحت علم واحد مع وجود من ينفخ ويغذي ويستفيد من الإصطفافات المذهبية والطائفية. ولكن، ومن زاوية أخرى فإن تعدد المذاهب الدينية والطوائف العرقية داخل الوطن الواحد بحد ذاته لا يقدم تبريراً كافياً ومنطقياً للخروج على الولاء الوطني الجامع إلا إذا كانت هناك أسباب سلوكية (معنوية ومادية) يستغلها الخارجون على الولاء الوطني لتبرير الانشقاق والخروج. لا يوجد ولم يوجد على وجه البسيطة وطن واحد بمذهب واحد وعرق واحد ولن يوجد ذلك على الإطلاق مهما حلم الحالمون وكثر الإنتحاريون وتعالى صراخ الفاشيين والإقصائيين وخفافيش الإرهاب في كل مذهب وطائفة وملة. عكس ذلك هو الذي سوف يحدث لأن العالم بكل طوائفه ومذاهبة وملله يتجه مضطراً بديناميكية علمية واقتصادية ضاغطة إلى التعايش واحترام الخصوصيات العقدية والعرقية، وإلا فالكارثة سوف تحل بالجميع.
إدراك ضرورة التعايش على المستوى العالمي توصلت إليه قبلنا الأمم الأخرى بعد الحروب الطاحنة في القرنين التاسع عشر والعشرين حين أهلكت عنصريات الرجل الأبيض الاستعمارية والنازية والفاشية مئات الملايين من البشر فاحترقت دول وفنيت أو كادت أقليات كثيرة. واحدة من نتائج تلك الحروب العنصرية كانت انصراف الناس عن الأديان ودور العبادة لأنهم أدركوا بالمعايشة العينية ضلوع القيادات الدينية عندهم في تغذية وتأجيج تلك الحروب بدلاً من مقاومتها وكشف عناصر الكفر والفساد فيها.
اليوم (بالمفاهيم الاجتماعية وأساليب الحكم) نشاهد نوعين من الأوطان، نوعاً تفرض فيه هيبة القانون والسلطة العدالة الاجتماعية واحترام الجميع للجميع داخل الولاء الوطني الجامع الواحد، وعالماً آخر تتعدد فيه الولاءات الفرعية المسكوت عنها فتعيث فساداً وتفتيتاً في البناء الوطني نفسه.
في الخمسينات من القرن الماضي فقط وبعد حروب طاحنة أدرك العقلاء في أوروبا ما أدركه الآباء المؤسسون للولايات المتحدة الأمريكية قبل قرنين من استحالة جمع الناس قسراً على ولاء وطني واحد بدون احترام الخصوصيات العرقية والمذهبية داخل النسيج الوطني. اليوم نرى أن الدول المنيعة القوية اقتصادياً وعسكرياً هي تلك التي تقوم كياناتها على الاحترام المتبادل والعادل لخصوصياتها الداخلية تحت ولاء واحد هو الولاء الوطني فقط وتقديمه على كل الولاءات الأخرى، ليس لإضعافها والتهوين من شؤونها ولكن لحمايتها من عدوانيتها ضد بعضها والمحافظة عليها.
بالمقابل.. ماذا نستطيع أن نقول عن النتائج المحتملة للتمذهب والإصطفاف العرقي والقبلي والطائفي في مجتمعاتنا العربية والإسلامية ونحن نرى التالي ماثلاً أمامنا:
- اليمن يتصدع بسبب الحوثية والقاعدة والزيدية والزيدانية والقبلية إلى آخر الأطياف والولاءات المتصارعة على حساب اليمن.
- لبنان يشتعل ويتخطفه الفرس والغرب والعرب واليهود بسبب الولاءات الطائفية والمذهبية والعرقية والميركانتيلية.
- العراق الذي أصبح في خبر كان لنفس الأسباب.
- الملاسنات المذهبية التي بدأت تكشر عن أنيابها وتنذرنا بمصائب مقبلة علينا في منطقة الخليج، والتي يعرف الجميع عن بكرة أبيهم من ينفخ ويؤجج في نيرانها من أصحاب الولاءات السنية والشيعية والمصالح الداخلية والخارجية.
على هذا القياس نستطيع أن نتوقع ما سوف يحدث في مصر (مسلمون وأقباط)، وفي السودان (مسلمون ونصارى ووثنيون وعرب وإثنيات أخرى) وفي الجزائر (عرب وبربر) وفي باكستان (سنة وشيعة وأعراق كثيرة أخرى)، إلى آخر المنظومة التي كلها ويا للعجب ترفع لواء الإسلام ولا تحترم تعاليمه في التعايش والاحترام المتبادل. تركيا وماليزيا وإندونيسيا دول إسلامية أدركت خطورة اللعب بأوراق التمذهب ولذلك قطعت شوطاً بعيداً في التعايش والسلم الاجتماعي.
|
|
إلى الأمام ليس للولاءات المذهبية ولاء وطني د. جاسر عبد الله الحربش |
|