نحتفل هذه الأيام بذكرى اليوم الوطني، ذلك اليوم الذي جمع الله به كلمة أهل هذه البلاد، ووحّدها فأصبحت ذات كيان واحد تحت اسم واحد هو (المملكة العربية السعودية)،
وهي ذكرى مهمة وفرصة ثمينة نتمكن فيها من التأمل في تجربتنا الحضارية والتاريخية، ومدارستها؛ لنتمكن أولاً من تحديد أهدافنا من خلال الوقوف على الأهداف التي قامت عليها هذه الدولة، ثم الوصول إلى حلول للمسائل التي نحن بصدد معالجتها.
منذ أن دخل الملك المؤسس الحجاز كان أول عمل قام به أن بدأ بترتيب البناء التعليمي الذي لم يكن يسير وفق الضوابط العلمية المعاصرة، وكان كل ما يمكن أن يوصف به - إضافة إلى حلق التعليم في الحرمين الشريفين وبعض المساجد الأخرى - بأنه من الجهود الفردية من المجتهدين المحبين لهذا البلد وأهله، وذلك أن قام بالإعداد لتأسيس مديرية المعارف التي قامت بتنظيم الجهود التعليمية ومدارسة الوضع لتكون وسيلة للبحث وتوطين المعرفة، ونشر المدارس على الطريقة المعاصرة؛ فافتتحت مدرسة تحضير البعثات، والمعهد العلمي السعودي، ثم دار لتوحيد فيما بعد.
هذا الأمر الذي قام به الملك المؤسس - يرحمه الله - منذ فجر التوحيد يكشف عن الهمّ الذي كان يعتمل به فكره رحمه الله، والرسالة التي كان يحملها تجاه وطنه ومواطنيه، إنها رسالة البناء والتأسيس، البناء القائم على العلم والمعرفة الذي يواجه به الجهل والخرافة، البناء الذي جعل هذا الوطن قادرًا على مواصلة الرسالة التي قام بها العرب المسلمون الأوائل حيث نشر العلم والفضيلة المعتمدَيْن على العقل والمنهج العلمي الصحيح. هذه المسائل لن تتم إلا حين يكون العلم مبذولاً للجميع من أبناء هذا الوطن دون تفرقة بين أحد، وهو ما أصبح واقعًا فيما بعد من خلال التعليم المجاني لجميع أبناء فئات الوطن، بل دفع به الأمر لأبعد من ذلك حين وضع المكافآت لتشجيع أولياء الأمور الذين ينقطع أبناؤهم للتعلم عن السعي في الأرض.
هذا الخيار الذي اختاره الملك المؤسس - رحمه الله - واعيا يبين لنا أمرين: الأول مفهومه للتوحيد، والثاني مفهومه للدولة والبناء. فالتوحيد هنا يعني توحيد الشعب جميعًا في الفرص المتاحة لهم، وذلك أن نشر التعليم وإتاحته لجميع أبناء الشعب على اختلاف مستوياتهم يعنيان أن هؤلاء سواسية في الحقوق والفرص ومن ثم في الدور الذي سيناط بهم فيما بعد، وهو ما يعني الحكم سلفا بما سيكون عليه أبناء هذا الوطن، وهو ما يعني الشق الآخر من مفهومه - رحمه الله - للتوحيد، فالتوحيد لن يتم إلا من خلال الاستقلال الكامل عن الأجنبي، وذلك أن يكون أولاً القرار والموقف في هذه البلاد نابعًا من مصلحتها هي أولاً وليس بناء على حسابات مصلحة فردية، أو بناء على مواقف بعض الفئات، فيكون القرار نابعا منها ومواقف الأفراد فيها نابعا من مصلحتها وليس من خلال ما تمليه أطراف أخرى، ثم بالاستقلال عن الأجنبي في بناء الوطن من خلال السعي إلى تأهيلهم وإعدادهم إعدادًا كاملاً بحيث يكونون قادرين على بناء وطنهم بأنفسهم وقادرين على حَمْل الأمانة التي حمَّلها لهم، ومن يأتي بعدهم من الأجيال.
الثاني هو مفهومه - رحمه الله - للدولة، فليس المقصود هنا إلا أن هذا البناء لن يقتصر على بناء المكان بالرغم من أهميته، وإنما سيهتم أيضا ببناء الإنسان الحال في المكان، فالتعليم هو الوسيلة الحقيقية التي ستقوم ببناء الإنسان وتطويره، وجعله إنسانا حقيقيا واعيا، وهو ما يعني أن بناء صورة هذه الدولة في مخيلة الملك المؤسس - رحمه - الله كان يتمازج بين صورتين: الأولى صورة الدولة الحديثة التي تقوم على التعليم والمدارس الحديثة، والاتصال بالآخرين، وصورة الدولة في التاريخ العربي الإسلامي التي تكون فيها ذات رسالة إنسانية خالدة تقوم على الإيمان بالله وبرسوله وملائكته وكتبه واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره، وقضية أخلاقية هي احترام الآخرين وحفظ حقوقهم من غير التفريط في الحقوق الخاصة.