الفنانون الجدد يفكرون، يضعون التصورات والمفاهيم، يصوغون التجارب، وهم بذلك يفتحون دروبا جديدة في الفكر والتصور، ويشكلون صيغا جديدة للعمل الفني في المستوى والدرجة والنوع. هذا ولأنهم بعملهم يحولون ما يفكرون به إلى فعل وعمل، إلى تركيب وبناء، إلى تشييد، إلى تقدم وحضارة، مكتشفين طرقا جديدة للتعبير عن الفكرة لتطوير ذلك وتقدمه ولفتح مقاصد جديدة ومشاريع جديدة. لأن الفنانين كذلك هم دائمو الطموح.. دائمو التطلع إلى ما هو أحسن وأفضل.. إلى ما هو أكثر رقيا وتقدما. في الواقع هذا تحديدا السبب في تغييرهم لواقعهم الفني.. هو سبب تقدمهم ونقلهم للحالة الفنية في أقاليمهم من حال إلى حال.
يبدو هذا المستوى من الطموح للفنان العربي جدير بالتحصيل الفكري والثقافي وإلى تنمية المواهب والخبرات والمهارات والقدرات الذهنية والنفسية من أجل اكتساب الخبرة والاستحقاق عند خوض التجربة الفنية العالمية ومحاولة الوصول إلى مكانة جيدة في هذا السياق المفتوح. وهو الدافع كذلك إلى بذل الجهد الحثيث وتحدي الصعاب والمخاطرة والمغامرة أحيانا من أجل إنجاز الآمال والتطلعات في زمن يتحقق فيه غالب الآمال والتطلعات مع المزيد من الجهد المدروس. هذا المستوى من الطموح بالضرورة يكسب صاحبه مكانة وتقديرا واعتبارا وتميزا. وهو الذي يجعل كل ما قيل سابقا متكئا كليا على الدوافع النفسية التي تحدد اتجاه الفنان بكيفية ما.. وتحدد سلوكياته في سعيه نحو بلوغ غاياته. بل إن الدوافع النفسية في الغالب هي المحدد الأول لاتجاه فعله الفني ونوعه ومستواه وهدفه.. وتكشف في بعد خطير عن أساليب ووسائل وأدوات الفنان التي يمكن أن يستخدمها في سبيل ذلك.
من تلك الأدوات يعمد بعض الفنانين الدخلاء على معنى الفن.. إلى اللجوء إلى أساليب غير أخلاقية.. تمثلها في الغالب أفعال خارجة من الإحساس الضئيل بالجدارة والاستحقاق أو بضعف المقدرات الذهنية والكفاءة حيث يعمد الفنان إلى نسخ من هو أكثر منه حنكة طامحا للوصول إلى قدر من التفوق عبر تكثيف مستوى من الانتهازية والاستغلال والتضليل والادعاء والغش والحيل الغريبة غير معني إطلاقا بصدق الوسائل التي يستخدمها للوصول لهدفه أو مقدار مشروعيتها. الأمر الذي ينتج فنا أكبر من صاحبه قدرة وكفاءة ليس لكونه فنا عظيما بل لكون صاحبه لا يملك الكفاءة الفكرية والثقافية الموازية التي تجعله جديرا بهذا الفن.
مثل هذا النوع الشعوري من الفشل الذي ينمو فيما بين الفنان وعمله يدفع الفنان إلى أن يجهد نفسه أكثر وأكثر في سبيل الوصول إلى مكانة ترضي غروره وتبلسم ارتباكه أمام الوسائل والأدوات التي يستخدمها لكونها نماذج يظنها تستحق الجدارة فيما يعلم يقينا أنه لا يستحقها إلا من خلال الفن في تعامله معها لا أكثر.
إن نجاح هذا النوع من التجارب الفنية - التي يجدر التحدث عنها في سياقنا العربي – غالبا ما يكون مصحوبا بالقلق النفسي، أو هو غالبا ما يأتي بالقلق النفسي بعد تحققه.. فما أن يصل الفنان من هذا النوع إلى غايته حتى يبحث عن الرضا فلا يجده.. وينشد الاطمئنان فلا يلقاه. نجدهم فنانين لا يقبلون بوجود فنانين آخرين في إنحائهم هم أقل منهم مكانة وأكثف منهم إبداعا.. ليس قلقا من المكانة.. إنما كثافة الإبداع قلقهم.. الطلاقة الثقافية المصاحبة للفنان الأصيل والتي تفضح جزءا من ضآلة الدافع الإبداعي عندهم. كما نجدهم أيضا في أجلى الصور في الفنان المجهد من جراء فنه دائما.. بشكل يعوزه الإثبات والنتائج.. فنجده فنانا مشغولا دائما وجدا.. أو هو يدعي ذلك من أجل موازاة مكانته التي وصل إليها لا أكثر. كما نجدها أيضا في فنان يتحدث عن الفعاليات الفنية وأسماء مقتني أعماله أكثر بكثير من تحدثه عن الفن أو عن رؤاه الفنية أو عن أعماله التي يقدمها والذي في الغالب وحين يكون مضطرا لهذا يكشف بشكل محزن عن ركاكة ثقافية و نصوص محفوظة مسبقا من المجهد له الخروج عنها.
في الحقيقة.. من المزعج أن يتحدث الفنان عن عدم رضاه عن الواقع الراهن دون فعل يذكر لمواجهة هذا.. لكن من المخيب للآمال حقا أن يكون الفنان في سبيل هذا التغيير سارقا محترفا.. ليس ذكيا.. إنما جيد في استخدام الأذكياء لمصلحته. وهو من الخبث بمكان. فلا يقاس الفنان أبدا بحجم الفن الذي يقدمه فقط.. بل أيضا بشرعية هذا الفن.. هذه الشرعية التي تكفل له التأييد وتمنحه الاحترام واستحقاق المجد.